محمد جميل احمد يتحدث عن عجز غالبية الأحزاب ويكتب مصائر وتحديات الثورة المضادة بعد 30 يونيو

من المهم جداً رصد البنية الأوتوقراطية لذهنية العمل الحزبي العام للأحزاب السودانية، فهي بنية تعود في حقيقتها لأصول طائفية وقبائلية مضمرة، نظراً لأن المجتمع الذي نشأت فيه تلك الأحزاب، مجتمع يقوم توصيفه الحقيقي والدقيق على أنه لا يزال مجتمعاً تقليدياً تقبع في داخله أنساق أوتوقراطية مضمرة، تفعل فعلها الخفي بتأثير مرجعياتها المؤثرة عبر نمط عام من الهيمنة، ويضغط الوعي الجمعي لتلك الذهنية التقليدية، ويدفعها إلى استجابات تقليدية لا واعية في سلوك النخب الحزبية.

هذه الحقيقة نلحظها بصورة واضحة مثلاً في عجز غالبية الأحزاب عن التفريق بين سقفها الحزبي (الذي هو إطار لتوافق خاص حول رؤية للعمل السياسي منظوراً إليه كعمل وطني ما)، وبين السقف الوطني الذي ينبغي أن يكون مشتركاً سياسياً أساسياً تنقسم عليه الأحزاب جميعها بتعريف موحد في قضايا لا تقبل الاختلاف الحزبي.

من الأهمية بمكان تتبع جذور هذه الخاصية، وهي خاصية تتفرع منها طبيعة أخرى، يمكننا أن نرصدها في طريقة استجابة أعضاء الأحزاب للدفاع عن أحزابهم، فهي طريقة تنمُّ في حقيقتها عن طبيعة الدفاع عن هوية خاصة، كالقبيلة، لا هوية عامة كالحزب، الذي بطبيعة هويته المتصلة بالمجال العام، ينبغي أن يكون قابلاً بالضرورة للنقد المستمر، لأن الفضاء العام/ السياسة، مادة لاختلافات ضرورية في وجهات النظر.

إن تحرير أصل تلك النزعة غير السياسية في طريقة دفاع منسوبي الأحزاب عن أحزابهم وما يصاحب ذلك غالباً من غضب وتشنج، قد تضيء لنا قضية اشتغلات تأثير البنى التقليدية للمجتمع السوداني على أحزابه، كون تلك الأحزاب في الحقيقة أحزاباً تعيش داخل مجتمع تقليدي البنية والهوية

لهذا، لقد كان تسييس الإدارة الأهلية الذي جلبه نظام البشير، ومارسته “الإنقاذ”، شكلاً من أشكال هوية “القدامة” في بنية خطاب الإسلام السياسي، أي في كونه خطاباً أيديولوجياً قائماً على تصور هوياتي للإسلام لا يفرق في وعيه بين ثقافة التاريخ (التي تستصحب تأثير التحولات)، وثقافة النص التي هي ثقافة قائمة على التجريد وعلى أدلوجة أن كل شيء يصلح للمسلمين هو موجود في تاريخهم القديم.

وحين يمتحن خطاب أيديولوجي كهذا للإسلام السياسي بتحديات إدارة الدولة والحياة المعاصرة إثر انقلاب عسكري يستولي على السلطة في بلد ما (بل حتى لو كان ذلك إثر انتخابات ديمقراطية) يتحول ذلك الخطاب ميكانيكاً إلى خطاب “قدامة”، ولهذا في تقديرنا أن استعانة نظام البشير بالقبيلة هو الوجه الآخر للخطاب الهوياتي بوصفه خطاب قدامة أعجزته الأيديولوجيا وفضحته حين حاول معالجة قضايا شائكة كإدارة دولة مثل السودان فيها تعقيد وتنوع.

لقد كان محتوى خطاب الإدارة الأهلية يتضاءل مع تقدم الحياة السودانية المعاصرة وانخراطها في التحديث، فطبيعة التحدي هنا، بين القدامة والحداثة ذات المفردات الغنية في تلبية حاجات الإنسان المعاصر كفيلة بأن تجعل من خطاب القبيلة (كما كان ما قبل الدولة) أن يتوارى خجلاً (كما حدث ذلك مع بدايات تحديث الدولة السودانية)، وفقط نتيجة لـ”ديالكتيك الحياة المعاصرة” ذاته، إلا إذا قيض لهذه البنية التقليدية (الإدارة الأهلية) خطاب “قدامة” بلبوس أيديولوجي معاصر كخطاب الإسلام السياسي الذي شهدنا جريمته الكاملة على مدى 30 سنة في تجربة الإنقاذ.

فخطاب الإسلام السياسي لـ”الإنقاذ” هو الذي منح قبلة الحياة لنظام القبيلة القديم في زمن مختلف، ولهذا حين صمم نظام البشير – الترابي، نظام تسييس الإدارة الأهلية كانوا قد بعثوا من القبور شيئاً قديماً ومدمراً، وهذا الشيء ليس هو القبيلة (فالقبيلة في زمن حكمها ما قبل الدولة الحديثة كانت صمام أمان للسلم الأهلي في مجتمعات سودان ما قبل الدولة)، وإنما هو: القبائلية التي هي ممارسة سياسوية بأدوات القبيلة، وهذا أكبر خطر كان، ولا يزال، يدمر السياسة في السودان عامة منذ 30 سنة، وفي شرق السودان خاصة، لأن شرق السودان لا تزال مكوناته المحلية خاضعة لنظام قبلي بجاوي تنعكس العصبية والأوتوقراطية فيه عبر أسوأ نماذجها المدمرة، أي ما يسمى “المجلس الأعلى لنظارات البجا”، والأجسام الشبيهة له – مع اختلاف في الدرجة، لا في النوع – مثل قبائل الـ”بني عامر” المتحدة!

لقد كانت أوضاع ما بعد الثورة في السودان، خاصة في شرقه، اختباراً حقيقياً لكفاءة الانتظام الذاتي لاشتغال نظام القبيلة، بعد ثلاثين عاماً من تكريسه بوصفه نظاماً للسياسة، وهي كفاءة أورثت الفضاء العام في شرق السودان فوضى كبيرة نبعت نتيجة خلو ذلك النظام القبائلي المسيس من أي توجيه وتحكم مركزي، بعد الثورة (كما كان يفعل نظام البشير في إدارته المنظمة لعمل تلك المنظومة)، بالتالي أصبحت تلك المنظومات القبائلية المسيسة عرضةً لتوظيف الثورة المضادة التي نشط فيها عناصر نظام البشير، وظلوا يديرونها بكفاءة في شرق السودان على مدى ثلاثة أعوام.

فمن ناحية، بدا واضحاً أن البنية الأوتوقراطية الخفية التي كانت تنعكس في عمل الأحزاب المدنية السودانية بطريقة خجولة أحياناً، أصبحت بعد تسييس الإدارة الأهلية (نظام القبائل) بنيةً واضحة ولا تحتاج إلى أن تكون مستترة، لأن تسييس القبيلة إذ يجعل بصورة آلية من ناظر القبيلة رئيساً للحزب في الوقت ذاته، فإن ذلك يعني بالضرورة طبيعة جديدةً من نظم الولاء ستتدخل في العمل السياسي، وهي طبيعة لا تقبل الاختلاف، ولا تقبل النقد، لأنها إذ تعتبر أي نقد للناظر بوصفه رئيساً للحزب، انتقاصاً من هيبته وكرامته (مع ضرورة ذلك ما دام الناظر يخوض في السياسة)، فإن إدارة الاختلاف في الفضاء العام ستحتكم إلى علاقات عنف وقوة، وليس إلى الحوار.

ومن ناحية ثانية، سنجد أن منظومة القبيلة كمنظومة تقليدية فاعلة في السودان، لا سيما بعد تسييسها، ستكون هي الأكثر فاعلية لتمرير أجندة الثورة المضادة من قبل عناصر نظام البشير، لأنه إذا كان من المستحيل في ظل الثورة، العمل بواجهة نظام المؤتمر الوطني المحظور في السودان، فإن الخبرة المتراكمة لعناصر نظام البشير التي دأبت في السهر على إعادة منظومة الإدارة الأهلية لواجهة السياسة طوال ثلاثين عاماً، ستكون هي الخبرة الأكبر كفاءةً في إدارة معارك الثورة المضادة.

وهذا ما نراه اليوم في شرق السودان، حيث بدا واضحاً أن مجموعة من عناصر نظام البشير تتستر اليوم تحت ما يسمى “المجلس الأعلى لنظارات البجا”، وحيث إن شرق السودان باعتباره أكثر مناطق السودان التي ينعكس فيها نظام الولاء القبائلي للبجا كأقوى نماذج الولاء العصبية الأوتوقراطية، فإنه كان بمثابة الاختيار المثالي لإدارة الثورة المضادة في شرق السودان، خصوصاً أن هناك شخصيتين من أقوى شخصيات نظام البشير، هما من شرق السودان، وهما من يديران الثورة المضادة من خارج السودان.

وبعد الفشل الواضح والذريع لتظاهرات يوم الثلاثين من يونيو (حزيران) الماضي التي كان يراهن عليها أنصار البشير عبر حملة كبيرة في وسائل التواصل الاجتماعي، مستثمرين في تلك الوسائل حسابات وهمية كثيرة، وهو فشل أبان لكل مراقب النهاية المأساوية لقدرات نظام البشير على العودة إلى الحكم مجدداً، على الرغم من الإمكانات المالية والبشرية الضخمة، كان واضحاً أن الورقة الأخيرة من أوراق نظام البشير هي ورقة القبيلة عبر نشاط ما يسمى المجلس الأعلى لنظارات البجا في شرق السودان، لكن هذه المرة ليس في الشرق، وإنما في قلب الخرطوم وضمن النشاط المعارض لحكومة الثورة يوم 30 يونيو الماضي.

وفي ظل ملابسات اعتقال بعض منسوبي المجلس الأعلى لنظارات البجا من قبل نيابة شرطة لجنة إزالة التمكين على خلفية التظاهر لإسقاط حكومة الثورة، وورود أخبار في الصحف عن رصد مكالمات لرئيس المجلس مع قيادات نظام المؤتمر الوطني المعتقلين في سجن كوبر وقيادات أخرى خارجية، كان تهديد رئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا الناظر محمد الأمين ترك (ناظر قبائل الهدندوة في شرق السودان) بإغلاق إقليم شرق السودان، وإغلاق الطريق القومي الذي يصل ميناء بورتسودان بالمركز، شرطاً لإطلاق منسوبي المجلس المعتقلين من طرف نيابة لجنة إزالة التمكين، بل كان كذلك شرطاً لحل لجنة إزالة التمكين المركزية في الخرطوم!

وإذا عرفنا مثلاً أن أنصار المجلس الأعلى لنظارات البجا كانوا قبل شهور قد اقتحموا مقر لجنة إزالة التمكين بمدينة بورتسودان (شرق السودان) احتجاجاً على تجميد أرصدة محمد طاهر إيلا (والي البحر الأحمر الأسبق وآخر رئيس وزراء لنظام البشير قبل الثورة، وهو كذلك والٍ ينتمي إلى قبيلة الهدندوة) فلن يكون خفياً على المراقب أن هذا الشرط الذي وضعه الناظر ترك (شرط حل لجنة إزالة التمكين المركزية في الخرطوم) هو جزء من ضغوط أجندة سياسوية للثورة المضادة، ولعل هذا ما يفسر لنا بوضوح كذلك، زيارة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك (في نفس اليوم الذي أطلق فيه الناظر ترك تهديداته المطالبة بحل لجنة إزالة التمكين المركزية) لمقر لجنة إزالة التمكين المركزية بالخرطوم وتهنئتها على الإنجازات التي لعبت دوراً كبيراً في إفشال المخطط التخريبي للثورة المضادة في يوم 30 يونيو الماضي.

ستشهد الأيام المقبلة تحولات مهمة وتحديات خطيرة على ضوء نتائج يوم 30 يونيو الماضي، (وهو، للمفارقة، يوم قيامة الشعب السوداني بالملايين بعد مجزرة القيادة العامة في 3 يونيو 2019، وفي الوقت نفسه تاريخ الانقلاب المشؤوم للجنرال عمر البشير يوم 30 يونيو عام 1989)، فالنجاح الكبير لذلك اليوم أعاد به الثوار عبر تظاهراتهم السلمية في ذلك اليوم زخماً جديداً بالالتفاف حول المبادرة التي طرحها رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، بدا بمثابة تجديد للثقة في قوى الحرية والتغيير (الحاضنة السياسية لحكومة الثورة)، لا سيما بعد أن عقدت هذه الأخيرة اجتماعات مهمة خرجت بقرارات مفصلية حول إعادة هيكلة مجلسها المركزي والتفافها في الوقت ذاته حول مبادرة رئيس الوزراء لتوحيد الكتلة الانتقالية ككتلة تاريخية تتوافق على برنامج وطني يقود البلاد ويحصن مرحلة الانتقال الديمقراطي.

وفي ضوء هذه التحولات الجديدة لنتائج يوم 30 يونيو الماضي سيكون هناك استكمال لاستحقاقات ثورية في قضايا السلام منعت منها بعض الترتيبات المعيقة من طرف جزء من المكون العسكري وتحالفاته الخفية والمحتملة مع قوى الثورة المضادة، إلى جانب استحقاقات أخرى كانت عرضةً للتجاذبات.

لقد كان يوم 30 يونيو الماضي، من ناحية ثانية، يوماً لانكشاف خواء وجهي أحزاب الأيديولوجيا العقائدية في السودان يميناً ويساراً، حيث بدا واضحاً في ذلك اليوم، إلى جانب فشل تظاهرات الثورة المضادة؛ فشل ذريع آخر لتظاهرات الحزب الشيوعي السوداني الذي كان يهدد بإسقاط حكومة الثورة، عبر حشد أنصاره، لكن تظاهرات أنصاره كانت هزيلةً، وكشفت عن الحجم الحقيقي لهذا الحزب في الشارع السوداني.

لقد كان يوم 30 يونيو قبلة الحياة لقوى الحرية والتغيير لتصحيح مسارها، ولكنه ليس شيكاً على بياض! فقد كان “فشل المليونية المزعومة لقوى الثورة المضادة ليس شيكاً على بياض للحكومة، بل هو عربون الوطنية الراشدة الذي دفعه الشعب السوداني طوعاً وهزم به الخط السياسي للإسلامويين والشيوعيين بهدف إسقاط حكومة الفترة الانتقالية! هذا العربون قابل للاسترداد! وما دام الشعب الفقير المنكوب قد دفع العربون فعلى الحكومة الانتقالية وحاضنتها السياسية والشريك العسكري سداد كامل استحقاقات شعار حرية سلام وعدالة!”، كما كتبت الكاتبة السودانية رشا عوض

صحيفة السوداني

Exit mobile version