حكومة عاجزة عن القيام بمهامها، و ذلك بإعتراف رئيس وزراءها، و تحالف حاكم مشتت فشل في الحفاظ على كيانه؛ نظام سياسي مهترئ و مفكك في ذاته و فاشل وظيفيا. أي نوع من البلادة الذي يجعل هذه السلطة قادرة على الاستمرار و على استخدام القوة لقمع أي صوت معارض ؟
السبب الأساسي في انهيار نظام الإنقاذ كان هو الشعور بالفشل؛ بأن النظام لا يلبي تطلعات الشعب، و لا يلبي حتى تطلعات نظام الإنقاذ نفسه التي أرادها للشعب السوداني؛ سقط نظام الإنقاذ عندما شعر الإسلاميون بأن هذا النظام لا يعبر عنهم، و انفضوا عنه و عارضوه بل خرجوا عليه، و عندما اشتدت الثورة، انزوى حزب المؤتمر الوطني بشكل أساسي بسبب هذا الشعور بأنه لم يعد يلبي تطلعات و أشواق الشعب السوداني. هذه هي الهزيمة الأساسية للحزب الحاكم و للنظام الحاكم حيث فشل في إقناع حتى منسوبيه و أبناءهم في التمسك به و الدفاع عنه، فسقط !
لم يكن بمقدور نظام الإنقاذ ان يقنع ولا حتى منسوبيه بأن الوضع القائم الآن أفضل مما تبشر به الثورة. فسقط لأن قطعة الخبز أصبحت بجنيه واحد.
لقد سقط نظام المؤتمر الوطني بسبب الأزمة الإقتصادية بشكل أساسي و تردي الخدمات و الشعور بانسداد الأفق ( تلك الأوضاع التي أسقطت نظام الإنقاذ أصبحت الآن جزءا من ذكريات الماضي الجميلة بالنسبة للشعب بما في ذلك الثوار الذين اسقطوا النظام، حيث كان الدولار باقل من 70 جنيها، و جالون البنزين ب 28 جنيه، و العيشة بواحد جنيه). لقد سقط النظام لأن ذلك الوضع كان دون طموحات الشعب السوداني، و هو أمر حقيقي و طبيعي، و الجميع بما في ذلك النظام الحاكم كان يقر بذلك. سقط النظام لأن الجميع اعتقدوا، ربما بما في ذلك رموز و أنصار النظام انفسهم، بأن الشعب السوداني يستحق أفضل من هذا الوضع، و هذا شعور طببعي و ضروري.
الإسلاميون الذين يُنسب إليهم ذلك النظام لم يكونوا راضين عنه، لأنه في نظر أكثرهم تساهلا هو نظام بحاجة إلى إصلاح حقيقي، و شهد الحزب الحاكم مذكرات و إنشقاقات في هذا الصدد، بينما أكثرية الإسلاميين في صفوف المعارضة الصريحة و المواجهة للنظام في سبيل الحريات و الديمقراطية و العدالة، و أضعفهم إيمانا لا يشعر بالرضا عن الوضع، و هذا لا ينفي وجود فئة مستبدة بالسلطة و فاسدة، و لكنها كانت محاصرة بالرفض و بالمعارضة و ملاحقة بالضغوط من داخل النظام و من خارجه؛ و يمثل مشروع الحوار الوطني و المدافعة التي تمت فيه حول قضايا الحريات و السلام و إصلاح نظام الحكم و الاقتصاد و غيرها من القضايا أكبر دليل على إقرار النظام أولا بالأزمة و على انفتاحه و استعداده للأخذ و الرد مهما تثاقل و تردد في الوفاء بالالتزاماته و راوغ مثل أي نظام مفتون بالسلطة و يخشى من تسربها من بين يديه، يقدم رجل في الإصلاح و يؤخر أخرى.
و لكن الفكرة في كل هذا الكلام هي أن شعورا بالمشكلة و بالمسئولية عن هذه المشكلة كان موجودا لدى النظام نفسه، و كان هذا أهم عامل من عوامل تفكك النظام ثم سقوطه. و الأهم من ذلك أن النظام كان يسعى للحوار مع الآخرين و لإشراك الآخرين لمواجهة الأزمة التي تعيشها البلاد، فشاركت العديد من القوى و بعضها كان يحمل السلاح، و بعضها كان معارضة مدنية، في الحكم. كل هذا يدل على الشعور بأن هناك ازمة، و بأن هذه الأزمة بحاجة إلى معالجة، و أن الواقع هو دون طموحات الجميع، و أن للشعب آمال و تطلعات مشروعة، و أن ما هو قائم الآن هو دون الطموح. هذه كلها كانت من بديهيات الواقع السياسي.
أما الآن، بعد الثورة، و حكومة الثورة، حيث يتم تصوير وصول باخرة قمح، أو باخرة وقود على أنها حدث أسطوري خارق، و حيث توفير الدواء و الكهرباء هو جزء من الأحلام البعيدة، و حيث الحصول على رغيف أو العودة سالما إلى البيت دون التعرض لعملية نهب هو أمر يستحق الاحتفاء؛ الآن رغم كل هذه المعاناة و هذه الأوضاع المأساوية، و التي يبدو الوضع في أسوأ أيام النظام السابق نعيما بالنسبة لها، رغم كل هذا لا تشعر هذه الحكومة بأي حرج، و لا أي مشكلة، و قادتها و أتباعها مستعدون للكذب و للمزايدة على الآخرين، و مستعدون لمصادرة حتى الحق في المعارضة السياسية، دعك من أن يستمعوا إلى أحد، بينما القوى و الأحزاب التي يزايدون عليها بما في ذلك حزب المؤتمر الوطني بكل أخطائه، كانوا أكثر مسئولية و أكثر وطنية منهم؛ كانوا أكثر انتماءا لهذا الشعب و أكثر إحساسا بمعاناته، و كانوا أقدر على تدبير شئونه رغم الحرب و الحصار و رغم كيد المعارضة حينها و التي أصبحت حكومة الآن و التي كانت تحرض العالم على حصار السودان و معاقبة السودان، بل إنها حرضت الشعب على تسريع الإنهيار الاقتصادي من خلال مقاطعة البنوك و عدم إيداع الأموال فيها و من خلال التحريض على شراء العملة، هذه الأحزاب و هؤلاء النشطاء هم نفسهم الذين كانوا يعارضون الإصلاحات الإقتصادية التي كان يحاول النظام القيام بها !
قارن هيكل السلطة في ظل نظام الإنقاذ و هيكل السلطة الآن.
كانت هناك حكومة حوار وطني بمشاركة طيف واسع من القوى السياسية، و كانت هناك قيادة واحدة معروفة، كانت هناك لجان و تنسيقيات للتحالف الحاكم و هياكل واضحة للتحالف الحالكم و للسلطة. و لكن أنظر الآن، اين التحالف الحاكم ؟ اين هياكله ؟ اين هياكل السلطة ؟ أين المحكمة الدستورية ؟ و اين البرلمان ؟ و القضاء ؟ و النيابة ؟
بكلمة واحدة، أين الدولة ؟ و أين الجهاز السياسي الذي يحكم هذه الدولة ؟
و لذلك تساءلت في البداية، ما هو مقدار البلادة الذي يجب ان يحوزه الإنسان لكي يستمر في السلطة، و بهذه الجرأة و العنجهية، بل بهذه البذاءة و عدم الخجل، حيث يتم اعتقال متظاهرين و تصويرهم و الاحتفاء بذلك كما لو انه انتصار في معركة عسكرية، بينما هم مواطنون خرجوا ليمارسوا حقهم الطبيعي في التعبير. فما بين التردي المريع الذي يضرب كل مناحي الحياة في البلد، و بين هذه الوقاحة و الجرأة و اللامبالاة التي تظهرها هذه السلطة و أتباعها في الإعلام، يقف الإنسان ليتساءل: أي نوع من التبلد هذا الذي يتمتع به هؤلاء و يجعلهم قادرين على الاستمرار في هذه المأساة بل و الضحك في أثناء ذلك؟
نظام المؤتمر الوطني بكل جبروته لم يستطع الاستمرار حينما فقد المبررات الأخلاقية لوجوده. فما هي المبررات الأخلاقية لوجود نظام يمثل النقيض لكل ما نادت و بشرت به الثورة ؟
حليم عباس