أذكر بعد أقل من أسبوع من الثلاثين من يونيو التقيت الرئيس البشير في حوار لمجلة (الوطن العربي) التي تصدر من باريس.. كان الشعر ما زال يكسو رأسه.. والشباب يتدفق منه والذكاء يشع من عينيه.. وهموم الوطن تشغل ذهنه.. قال لي: عندما استلمنا السلطة.. وعقدنا أول اجتماع لنعرف الإمكانات الموجودة.. وجدنا الخزينة خاوية.. والبترول منعدماً والدقيق يكفي لمدة أيام قليلة فقط.. ونتيجة لشح الدقيق كان إنتاج الخبز قليلاً.. لا يجده أكثر أهل المدن.. والسيارات تبقى لأكثر من يوم للحصول على جالون من البترول.. والأسر تنام في الأفران للحصول على أرغف قليلة لعمل السندوتشات لطالبات وطلبة المدارس.. كل شئ كان معدوماً.. وبعد هذا الجرد.. فكرنا أن ننسحب من السلطة. وضحك ضحكة قوية.
الآن.. بعد (19) عاماً.. قاومت الإنقاذ كل محاولات إسقاطها.. وكل محاولات تكيبلها بالعقوبات الاقتصادية وبالتآمر الخارجي.. ومع هذا التحالف الخارجي والمحلي ضد الإنقاذ.. كان لابد في المرحلة الأولى أن تكون القبضة حديدية وبالفعل.. وبدأت الإنقاذ تشق طريقها في الصخر وتجاوزت العراقيل كافة والتآمر.. و(الكمائن) التي وضعت لها في الطرق.. ثم بدأت العافية تدب في الاقتصاد السوداني.. وبدأ السوق ينتعش قليلاً.. قليلاً.. الكهرباء بدأت تستعيد عافيتها.. والاتصالات التي كانت مستحيلة بين بيت المال وودنوباوي.. أصبحت الآن مدهشة.. تستطيع خلال ثوانٍ أن تتصل بأبعد مدينة في أمريكا.
وبدأت منذ أيامها الأولى تطرح رؤيتها للسلام خلال أول مؤتمر عقد للحوار.. صحيح أن كثيراً من القيادات السودانية.. هربت إلى الخارج وتركت الساحة خالية.
ثم جاء الإنجاز الأكبر.. تفجير ثورة البترول.. وأعقبها اتفاق السلام الذي كان هاجساً كبيراً للدولة.. وبعد مفاوضات الصبر النبيل التي قادها الأستاذ علي عثمان محمد طه مع الراحل جون قرنق زعيم الحركة الشعبية.. تم توقيع اتفاقية نيفاشا.. وصمتت البنادق.. وتوقفت الحرب وتوقف معها نزيف الدم.
هذه الحرب.. التي لم يخرج منها طرف منتصراً وآخر مهزوماً بل خرج منها السودان كله خاسراً.. فبددت ثرواته.. وفقد بنيه من الشمال والجنوب..
ثم توالت الإنجازات التي نعرفها جميعاً.. يعرفها المعارضون قبل الموالين.. والتي لا ينكرها إلا مكابر.. وتم توسيع مواعين المشاركة في الحكم.. وجاءت المعارضة من الخارج.. ودخلت عناصرها الحكومة.. والمجلس الوطني والعديد من مؤسسات الدول.. وتبدلت المواقف تماماً وأصبح الجميع في خدمة الوطن.
وجاءت الشراكة مع الحركة الشعبية.. لتزيد من قوة التماسك السياسي للدولة.. واتفاق أبوجا الذي وُضعت عراقيل دولية حتى لايكتمل ليشمل الحركات كافة.. ثم جاء اتفاق الشرق الذي بدوره أطفأ معظم الحرائق التي استهدفت السودان من أطرافه.
ونأمل كثيراً.. أن تحل مشكلة دارفور بجلوس الحركات المسلحة الى مائدة المفاوضات.. بعد أن عجزت عن تحقيق أي انتصار عبر البندقية والحرب.
ثم جاء الإنجاز الأعظم.. سد مروي هذا الإنجاز الإعجاز.. وهذا السد الذي كان حلماً ظننا أنه إحدى الأماني والأحلام المستحيلة، فإذا به حقيقة كبرى أمام أعين كل العالم، ومرة قلت للوزير أسامة عبدالله.. هذا الزاهد الذي يقف خلف هذا الإنجاز العظيم.. قلت له: في تقديري بعد اكتمال هذا السد العظيم.. ماذا ستقدم أكثر منه قال في رؤيتنا الكثير.. قلت له: لو كنت في مكانك لتقدمت باستقالتي.. فور اكتمال هذا الإنجاز.. لأنه لا أحد يستطيع أن يقدم مثل هذا الإنجاز إلى يوم الدين.. قال لي نحن نستطيع أن نقدم مثله.. وأعظم منه.
ثقة بالنفس لا حدود لها.. وعندما شاهدت الوزير أسامة لأول مرة قبل سنوات مضت لم أتوقع أن يفعل هذا الرجل الضامر الجسد والنحيل والزاهد.. كل الذي فعله.. وفي كل زياراتنا المختلفة للسد.. لم أر بين يديه كوب ماء.. ناهيك عن أكل.. وفكرت كيف يعيش هذا الرجل، وهي صفة مشتركة بينه وبين الدكتور عوض الجاز عندما كنا نزور معه مشاريع البترول في هجليج وفي فلوج وغيرهما.. يبقى الرجل طوال الرحلة منذ الصباح الباكر وإلى صلاة المغرب محتفظاً بوضوء الفجر.. كان ظاهرة شاركني في ملاحظتها عدد من الزملاء.
لقد قدمت هذه الحكومة.. ما لم تقدمه كل الحكومات التي تعاقبت على السودان، رغم الحرب الشرسة التي خاضتها.. مع المعارضة ومع القوى الخارجية المعادية لها.
رغم كل شيء.. هذه الحكومة خلقت للسودان ولأول مرة إرادة سياسية قوية، واستقلالية في القرار السياسي، والتعامل بندية مع كل دول العالم.. الأمر الذي كانت تفتقده كل الحكومات السابقة.
الإنقاذ بحجم العمل المعادي لإسقاطها.. وبحساباته الدقيقة.. كان يجب أن تسقط منذ وقت باكر لكنها ظلت صامدة.. هذا الصمود يجب أن يتعزز بإنفاذ اتفاق التراضي الوطني وبمبادرة الوفاق الوطني الشامل وبرؤية جمع الصف الوطني.. حتى يصبح الشعب السوداني كله في خندق واحد.. وتصبح أحزابه وتنظيماته السياسية الفاعلة مشاركة في حكمه.. والحكم يسع الجميع، كما كرر ذلك السيد رئيس الجمهورية يوم توقيع اتفاق التراضي الوطني بدار الإمام الصادق المهدي الذي سبق الجميع وبإرادة سياسية قوية وبرؤية متقدمة.. واستنارة واعية ووقع ذلك الاتفاق التاريخي الذي لن يستثني أحداً.
المطلوب بعد ذلك، الاتفاق على الثوابت الوطنية وعدم المساس بها، حينها ستنطلق الحريات، كافة الحريات.. من حرية الصحافة والتعبير إلى تغيير القوانين التي لا تنسجم مع الدستور كافة إن كانت هناك بقية منها.. ثم الاحتكام بعد ذلك لصناديق الاقتراع.. ليختار الشعب السوداني من يراه صالحاً لحكمه.. ومن يراه محققاً لتطلعاته وأشواقه في الحياة الحرة الكريمة والديمقراطية المستدامة وتخفيض تكاليف المعيشة والحرب على الفقر والمرض والجهل.. والشعب السوداني هذا الشعب العظيم يعرف بفطرته ووعيه المبكر من الذي يحقق له هذه الأماني.. لذلك فليستعد الجميع لمعركة الانتخابات لخوضها.. لنعطي شعبنا حقه في اختيار من يحكمه.
بقلم: كمال حسن بخيت : (smc)[/ALIGN]