“يحتاج المرء لكثير من المعرفة حتى يعرف مدى ما يجهله” توماس سويل
كنت قد توقفت منذ مدة طويلة عن قراءة عمود المدعو جبرا وذلك عندما ظهر لأي قارئ أنه يخلو تماما من السخرية التي يعد بها العنوان. السخرية تتطلب خفة دم لا أثر لها في عمود الكاتب، الذي لا يعكس سوى خفة عقل. عندما نبهني صديق لما كتبه هذا الدعي عني، لم أجد في نفسي حماسا للرد عليه فالرجل يبحث عن بطولة من حيث يقبع بالقاهرة تعيد إعتباره بعد أن نُشِر على الناس تمرغه في عتبة قصر البشير، لينفحه بعض من فتات مائدته ليطبع كتابه. ولكن الصديق نبهني إلى ضرورة شرح قرار تكوين القوة المشتركة وإختصاصاتها، وها أنا افعل ذلك.
كتب المدعو جبرا “دعونا نطلب من السيد الأستاذ أديب أن يفتينا أيضاً بخصوص الحريات العامة وحقوق الإنسان وضماناتها وحمايتها من ناحية دستورية عندما تتولى حركات مسلحة ومليشيات (غير نظامية) مهام الشرطة ؟ وما دام ذكر أن الأمر متعلق بالقوات المسلحة فهل يا ترى يرى (أديب) أن عليها إدارة الشأن المدني أيضاً..؟ وهل منح (الدستور) مهمة حفظ الأمن لهذه القوات المشتركة ؟”
أول ما يتبادر إلى الذهن هنا هو هل إختص القرار القوات المشتركة بمهمة حفظ الأمن؟
لو قرأ جبرا القرار، لوجد أن مهام وإختصاصات القوات المشتركة، ذكرها القرار في الفقرة 3 منه وهي لا تتعلق بحفظ الأمن، بل بفرض مزيد من الإنضباط على القوات النظامية، يتصل بتواجدها الكثيف داخل المدن. والسبب في ذلك هو منع التفلتات الأمنية التي صدرت عنها، والتي ضج الشعب بالشكوى منها. التفلتات التي تصدر من قوات نظامية تقع مسؤولية منعها على قيادتها العسكرية، ولا خلاف في ذلك. صحيح أن من واجب الشرطة التصدي لها إذا وقعت، ولكن على قياداتها منع وقوعها من الأساس، فهل قيام القيادة بأدء مهامها يعتبر تدخل في الشأن المدني للدولة؟! هل يريد جبرا حماية الحقوق العامة بترك التفلتات حتى تقع فتقوم الشرطة بواجبها في ضبطها، بغض النظر عن عدد الضحايا والشهداء الذين سيتسبب فيهم ذلك؟. ألا ترى ما قصده بزر جمهر حكيم فارس حين ذكر إن الجاهل عدو نفسه، فكيف يكون صديق غيره؟!
القرار يدعو لوضع تصور متكامل لخطة لحسم التفلتات الأمنية، وفرض هيبة الدولة في العاصمة والولايات. وهذه التفلتات السبب فيها تعدد القوى النظامية، بالأخص بعد التواجد الكثيف لقوى التنظيمات المسلحة في المدن بعد إتفاقية جوبا للسلام في داخل المدن، وحدوث بعض التفلتات الأمنية المنسوبة لها. والقرار لايجعل من ذلك سراً، فالقرار يذكر عن نفسه أنه تكليف بمتابعة تنفيذ اتفاق جوبا لسلام السودان. القرار يتحدث عن وقف التفلتات الأمنية، ومنع التجنيد غير القانوني، واللوحات المرورية المخالفة، وإلزام أطراف العملية السلمية بضبط وحسم منسوبيهم وتحديد أماكن تجمعهم. إذا رأى جبرا أن في ذلك ما يضر بالحقوق العامة فإن العيب في قدرته هو على الفهم، وليس في القرار.
أضف لذلك أن القرار كلف القوات المشتركة بمهام أهمها مخاطبة وزارة العدل لإصدار التشريعات اللازمة لعمل القوة. إذا فالقرار في حد ذاته لم يمنح القوات المشتركة أي سلطات بل يطلب تنظيم المسألة بتشريع.
إن مسألة ضبط القوات النظامية، ومنعها من مخالفة القانون، حتى قبل إتفاقية جوبا للسلام هي مسألة هامة ومن أهم واجبات القائد العسكري، شاء جبرا أم أبى. وهي من المسائل التي حسمها القانون الدولي الإنساني حين جعل مسؤولية ضبط القوات النظامية، ومنع أي عدوان من جانبها على المدنيين، هي مسؤولية القائد، فما الذي أغضب جبرا إذا قلنا ذلك؟
واقع الأمر أن هنالك صعوبات متعلقة بالإجراءات التي تترتب على الجرائم التي يرتكبها العسكريون، لأنه بموجب المادة 34 (2) من قانون القوات المسلحة لا يجوز إتخاذ أي إجراءات ضد أي ضابط أو ضابط صف أو جندي اذا قررت النيابة العسكرية انه إرتكب فعلاً يشكل جريمة وقعت أثناء أو بسبب تنفيذه لواجباته أو أي أمر قانوني يصدر إليه بصفته هذه، ولا تجوز محاكمته إلا بإذن صادر من وزير الدفاع أو من يفوضه. كذلك فإنه وفقا للمادة 49 (1) تكون للمحاكم العسكرية سلطة الفصل فى دعاوى أفراد القوات المسلحة عن الجرائم والمخالفات التى تنسب لهم أثناء أداء واجبهم أو بسببه. في مقابل هذه العقبات القانونية يلزم القرار القوة المشتركة أن تتحرك برفقة النيابة العامة.
ولهذا فإنه من الضروري وضع تشريع منفصل، ومفصل لمثل هذه التفلتات التي ضج منها المواطنون، وهذا ما يدعو له القرار. إن الحريات العامة التي أوقفنا حياتنا المهنية للدفاع عنها تتطلب حماية المدنيين من أي تعدي يحتمل أن يقع عليهم من أي قوة نظامية سواء وقع ذلك في حالة حرب أو سلم. فما هو الخطأ في منع أي أفعال غير قانونية تقوم بها أي قوة ذات طبيعة عسكرية وهو الأمر الذي يهدد الحياة والأنشطة المدنية.
إن القرار لا يمنح القوات المشتركة أي سلطة لمواجهة أي تفلتات أو حتى تجمعات مدنية، بل هو لا يجيز لها التحرك إلا في صحبة النيابة، ولكن سلطتها تقتصر على مواجهة التفلتات التي تصدر من مدنيين.
لم يدهشنا قول جبرا “حقيقة أصبحنا في حيرة من أمرنا ولا نعرف من الذي يحكمنا ويحدد مصيرنا وما هو الدستور الذي يطبق في هذه البلاد المبتلية بمثل هذه الفتاوى التي تصدر ممن نعتقد أنهم حماة للعدالة” فهو قد يجهل بالفعل كل ذلك، ولكن كل ذلك يظل جزء يسير ضمن الكم الهائل من المعلومات الذي يجهله جبرا. أما بالنسبة لعموم الناس فإن ما ذكره جبرا يدخل ضمن المعلومات العامة المعلومة للكافة.
على أي حال الحمدلله الذي جعل حقوق الإنسان من إهتمامات جبرا، رغم أنه لم يظهر فهما يؤهله للكتابة عنها بعد، ولكن لعل ذلك الإهتمام يساعده في مقبل الأيام، أن يكتب فيما يفيد الناس، بدلا عن محاولاته في السخرية التي لم تنجح في إضحاك الناس معه، وإن نجحت في إضحاك الناس عليه
نبيل أديب عبدالله
المحامي
صحيفة الجريدة