يصاب الناس بالإحباط حين ينظرون تحت اقدامهم ويرون الأرض جرداءا وقاحلة، فيظنون انهم على شفا جرف هار، بينما لو رفعوا رؤسهم نحو الأفق لربما رأوا بعد الارض الجرظاء ارضي خضراء وجنات ونهر. العامة تفعل هذا، تنظر تحت ارجلها، لا ترى البعيد، وهو شانها وطبيعتها، بينما القائد عكس ذلك، دوره أن لا ينظر تحت رجليه، ان ينظر بعيدا في المستقبل، ليرى إلى أين تسير امته، ثم عليه أن ينقل هذا المستقبل لأفئدة العامة، حتى اذا لم يروه رأي العين سمعوا به منه فداخلهم الامل وغادرهم الاحباط. وهذا بالضبط ما نعيشه اليوم، بل في الحقيقة هذا ما تعيشه جميع البلدان والشعوب حول العالم في مسارات وجودها، إذ في كل لحظة هناك منعطف صعب امام الأمة، والعامة لا يرون إلا تحت اقدامهم، فإن كانوا في نعيم لا يرون الجحيم الذين هم مقبلين عليه، وان كانوا في جحيم لا يرون النعيم الذين هم مقبلين عليه، حتى ينبههم القادة ويخذوا بأيديهم إلى الصراط المستقيم.
ساضرب مثالين، الاول، في كتاب بناء الدولة زكر فرانسيس فوكوياما تجربة نيوزليندا التي كانت تملك دولة من أفضل دول الرفاه الاجتماعي في بداية الثمانينات، بيد ان قادتها رأوا ان البلاد مقبلة في المستقبل القريب على أزمة اقتصادية خانقة نتيجة ارتفاع الدين العام والانخفاض المضطرد في الحساب التجاري، بالطبع لم يرى العامة ذلك فهم في نعيم ولا ينظرون بعيدا نحو الجحيم الذي هم مقبلين عليه، لذلك قامت الحكومة بإصلاحات اقتصادية على مراحل، من بين هذه الإصلاحات قامت بتعويم الدولار النيوزليندي، ألغت الدعم الحكومي عن عدد من الحزم المدعومة، وغيرت قانونها الضريبي. ثم في المرحلة الثانية قامت بعمل إصلاح مؤسساتي من أجل تجويد الخدمة وضبط العمل الحكومي، ومن بين ذلك اوكلت العمل التنفيذي لمدراء تنفيذيين تم التعاقد معهم على اساس تجاري من أجل إنجاز الأهداف المرجوة. هكذا نجت نيوزليندا من الخطر الاقتصادي الذي كان يتهددها.
المثال الآخر، ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في لقاء تلفزيوني حول رؤية ٢٠٣٠ للمملكة، أجاب على سؤال مقدم البرنامج حول فرض ضريبة القيمة المضافة ١٥% على السلع في السعودية وان في ذلك ضغط على السكان، بأن الإجراءات الاقتصادية التي تعتبر قاسية اليوم هي ما سيقود للرفاه في الغد، فهي إجراءات لابد منها لتفادي مستقبل صعب مقبل علينا، فإذا لم نتصرف اليوم سنندم غدا. وهي فلسفة مشابهة لفلسفة نيوزليندا. دول عديدة اخرى مرت بتجارب مشابهة وكان لقرار الدولة الذي راته العامة صعبا دورا في تغيير مستقبل الشعب نحو الأفضل.
نسوق هذا الحديث ونحن نسمع عن زيادات في الوقود وزيادات مرتقبة في الكهرباء، وبالتالي نتوقع زيادات أخرى مترافقة في معظم السلع، لو كانت هذه الزيادات نتيجة استقراء للمستقبل بواسطة الحكومة الانتقالية كما فعلت حكومتا نيوزليندا والسعودية فهذا شيء جيد، ويجب أن تعلن الحكومة عنه بلا تردد ولا مواربة، وأن تخرج للشعب في مؤتمرات صحفية متكررة وتحدثه بصراحة وشفافية عن هذا الأمر وتشرح له لماذا هذه الزيادات وما هو أثرها على المستقبل، أما إن كانت هذه الإجراءات هي مجرد إجراءات ظرفية لسد العجز في الميزانية او لتنفيذ سياسيات إنتقائية وليست حزمية للبنك الدولي، فإن هذا دربا مهلكا يجب أن تتحاشاه الحكومة الانتقالية.
بقى ان اقول ان الإصلاح الاقتصادي الراسمالي يحتاج بنية مؤسسية قوية، فهل تملك بلادنا الآن هذه البنية؟ هل المؤسسات التي تركتها الإنقاذ تمتلك الكفاءة اللازمة لإنجاز مثل هذا الاصلاح؟ بكل أمانة لا، وقد يكون هذا هو السبب الذي حدا برئيس الوزراء لطلب البعثة الأممية لمعاونته في إنجاز مثل هذه الاصلاحات، ولكن السؤال هنا هو هل سيطبق هؤلاء (الاجانب) نظاما مؤسساتيا كالذي عندهم ام يبتدعون نظاما خاصا ببلادنا؟ إن كانوا سيركبون نظاما عرفوه في بلادهم المتقدمة فوق بلادنا فهذا سيفشل لا محالة، لأن الفوارق ضخمة بين مجتمعنا ومجتمعهم، وسيكون تركيب هذا النظام المستورد فوق نظامنا السوداني كبناء طابق من الخرسانة فوق بيت من الجالوص، فهل يصمد الجالوص؟! عليه الطريق الأسلم لإنجاز هذا الاصلاح هو عبر ابتداع نظام سوداني خاص، يستوعب واقعنا ومجتمعنا ومقدراتنا ويستفيد من خبرة العالم بالطرق التي لا تهد المعبد فوق رأس الجميع.
صحيفة السوداني