قبل المضي في سيرة الكلاب، اعترف علناً أن أكثر حيوان أليف من ذوات الثدي يُخيفني هو الكلب ذكراً كان أم (إنتاية)، ولهذا الخَوف ارتباطٌ بطفولتي، فقد عضني كلب وأنا في الخامسة من عمري متخيراً من لحم ساقي (عضم الشيطان)، الأمر الذي اضطرني للحقن بالمصل لمدة 14 يوماً عن طريق الحُقنة التي تُسدّد مباشرة لجدار البطن !
ورغم أنّ الكلاب خلال سني طفولتي وصباي كانت ولا تظل تسير في الأسواق، وترقد في (الضللة) مثل العاطلين، وتضرب أنموذجاً فريداً من التّساكن و(التعايُش السلمي)، إلا أنّ هذه الأجواء السلمية لم تبعث الاطمئنان في نفسي ولم تُقلِّل من نسب الثيروكثين العالمية التي ترفزها غددي عندما أرى كلباً، والغريب أنّ هذا الإفراز لا يقتصر على الكلاب وحدها، بل أحسه أحياناً ينبع بَغتةً من غددي حين أرى (إنساناً أليفاً) !
رغم أنّ النعت الثابت للكلب بأنه وفيٌّ، إلا أنّ هذا الوفاء يقتصر فقط على مالكه الذي ربما لا يكون وفيّاً إلا لشروره، فالكلب يرتهن لقرار مالكه وسيده، والكلب تابعٌ لا يملك قراره وربما جاء المثل (جوِّع كلبك يتبعك) من تلافيف هذه العلاقة شبه الإقطاعية، والكلب أيضاً مُمثل ومُتقمِّص.
أذكر أنّ صديقي بدر ود الشقلة الجزار بسوق الفتيحاب مسّته ذات مرة نزعة ماركسية وكان ذلك في غضون انتخابات 1986، وكان مرشّح الحزب الشيوعي المهندس عمر الطيب شقيق الفنان الراحل عبيد الطيب من أقربائه، فناصره بدر من مدخل التواشح القبلي، وباختلاطه المُستمر مع لجان الحزب للدعاية أفاد الكثير من المُصطلحات الاشتراكية والمُفردات التقدُّمية، ولشدة ما تماهى بدر مع هذا الطقس صار يُقدِّم (كبدة الإبل) للجان الحزب الانتخابية رغم أن هذا الطعام لا تألفه الطبقة العاملة !!
ذات (ضبحة) مُشتركة بيني وبين بدر، زُرته في منزله المطل على النيل الأبيض في شرق الفتيحات فوجدته يُلاعب جرواً صغيراً وما أن رآني الجرو حتى أخذ من النباح والعدو وترقيص ذيله ومَد لسانه الصغير، وطوال ساعات الصفقة التي كانت تتعلّق ببعض ثيران اشتريتها من مجدي حدوب، كان الجرو لا يكف عن مُضايقتي بالخربشة حيناً والنباح أحياناً أخرى إلى أن عقدنا الاتفاق.
لقراء النسخة الإلكترونية في الشمال الأمريكي وأوروبا وأستراليا ومهاجر السودانيين العربية (مجدي حدوب) شاعرٌ مُجِيدٌ، غَنّى له الفرجوني وهو ابن حاج حدوب الذي عرف بتسمينه للثيران لحد ارتخاء جفونها، والجزار الوفي هُو مَن يشتري (الثور العميان) من حاج حدوب إخلاصاً لزبائنه وتأكيداً للوطنية المُنعقدة على الرفاه والسمنة ونحمد الله أن جعلنا من أهل اليمين !
بعد أسبوعٍ عاودت بدر لاستلام عائداتي من (الثور) وكانت المُفاجأة أنني وجدت الجرو قابعاً تحت حمّالة الزير وكان ساهماً ومهوماً وتبدو عليه آثار الرهق الفكري، فسألت بدر عن تبدُّل حاله من مُشاكسٍ لساكنٍ، فقال لي: (والله الكلب دا انا سميتو ماركس ومن يوم ما سمع الاسم دا قعد تحت الزير يفكر) !!
أعادتني لحالة الخوف الذي مسّ (عضم شيطاني)، وذكّرني بتمثلات كلب بدر الحالة الراهنة للكلاب مجهولة الهوية التي تفترس الأطفال في السودان ولا تخرج إلا ليلاً وتظل مُختبئة في النهار كأنّها مُدرّبة على ذلك ولا تستطيب من اللحم الآدمي إلا لحوم الأطفال، كأنّ اللحم الذي بلغ الحلم حرام عليها، ونبّهتني المرأة التي رَوَت قصة اختطاف طفلها من حجرها إلى أنّ هذه الكلاب لها لغة سرية وخُطط تتّفق عليها، ولا أبالغ إن قلت أيضاً أنّ لها خططاً بديلة وإلا كيف نُفسِّر سر دخول كلب لخطف طفل من حرز حجر في حين انتظار كلبين بالخارج. أدعو الحكومة للبحث عن وسيط (أليف) لجمع هذه الكلاب للتفاوض معها لمعرفة سِرّها.
صحيفة الصيحة