زين العابدين صالح عبد الرحمن يكتب: الثورة و السلطة و رهانات المستقبل

كتب المفكر االإمريكي صمويل هانتنتون في كتابه ” النظام السياسي لمجتمعات متغيرة” مقولة يقول فيها ” يفتقد المجتمع ذو المؤسسات السياسية الضعيفة القدرة علي كبح الإفراط في الرغبات الشخصية و الأنانية الضيقة”
أن مسيرة 3 يونيو التى خرج فيها ألاف الشباب في الخرطوم و عدد من المدن في السودان، رغم التذكير بالمناسبة المؤلمة ” مؤامرة القتل لفض الاعتصام في يونيو 2020م ” لكنها عكست في ذات الوقت حالة الشرخ الكبير داخل القوى السياسية، و ظهر ذلك جليا في الشعارات المرفوعة و الهتافات التى كانت تردد. كان هناك من ينادي بإسقاط الحكومة و البعض الأخر لا يريد اسقاطها، و هناك الذين يحتجون علي غياب العدالة و تردي الخدمات و غيرها. أن المسيرة عكست وجه الأزمة بكل تفاصيله و تقاطعاته، هي أزمة نخبة سياسية فقدت بوصلة الاتجاه و ضاعت معالم شعارت الثورة وسط هذا التيه.
أن الأزمة السياسية لم تسقط بسقوط النظام، و لكنها تعمقت أكثر لفشل النخبة السياسية في إدارة مرحلة البناء الوطني، حيث غاب الذين يشتغلون بالعقل، كل مجموعة تريد أن تؤسس مرحلة التحول الديمقراطي و البناء الوطني بشروطها وحدها دون الآخرين، و لا تريد أي مشاركات من قبل الآخرين غير تقديم تبريكات الولاء و الطاعة. الأمر الذي خلق في البلاد أزمة مركبة، و تباعدت الخطوط عن بعضها البعض، و قلت فرص الحوار السياسي بين مكونات التحالف الواحد، و لم تبق إلا اتهامات متداولة. هذا يذكرني بقول الكاتب المصري الدكتور نبيل عبد الفتاح في كتابه ” عقل الأزمة” يقول فيه ” أن أخطر ما في العقل السياسي التسلطي أنه يزرع اليأس في وسط أوسع القطاعات الاجتماعية، و عندما يزدهر اليأس و اللامبالاة الجماعية بالسياسة و الفعل الاجتماعي، يتوارى العقل الناقد رمز الوجود الإنساني و السياسي الحي وراء ضجيج الغوغائية السياسية و المهنية و الاجتماعية التي تحركها الجاهلية السياسية و الشهوات التسلطية” فالسودان الآن في مفترق الطرق، أما أن يكون الحوار السياسي المفتوح شاملا لكل القوى السياسية دون أي فيتو، باعتباره المدخل الرئيس لحل هذه الأزمات. أو أن حالة الشرخ تزداد يوما بعد يوم لكي تعصف بالوطن.
أن الغائب في المعادلة السياسية الآن هو دور المفكر الذي ينظر للقضايا بعقل مفتوح، و يحاول أن يسبر غور المشكل لكي يبين أسبابه، و العوامل المؤثرة في إعاقة الحلول، و يقود المفكر إدارة الصراع بحكمة و مهارة الهدف منها إيجاد البيئة الصالحة لعملية الحوار الوطني، و أيضا تقديم العديد من المبادرات، التي تنقل الناس من حالة الاحتقان و الأحساس بالبغض، إلي حوار فكري يتطلب قدرات عالية من الإبداع و الخيال لكي يفتح مسارات لحوارات مجتمعية تدعم عملية التوافق الوطني. و تجد الأحزاب السياسية حتى الأن تصب كل أهتمامها في دائرة السلطة و مكاسبها من المحاصصات، لكنها لم تفرد مساحة للتفكير في القضاية الوطنية، أن التفكير إذا لم ينتقل من الذاتي إلي العام لا يحقق مكاسب وطنية، لذلك دور المفكر أن يقوم بعملية النقل و يفتح أفاق جديدة للحوار في شتى الموضوعات التي يعتقد إنها ضرورية لعملية البناء و التوافق الوطني.
قبل مسيرة 3 يونيو بيوم واحد، عقد الحزب الشيوعي السوداني في داره بالخرطوم مؤتمرا صحفيا تحدث فيه محمد مختار الخطيب السكرتير السياسي للحزب الشيوعي قال ” هناك مقولة ثورية شهيرة تقول ( عندما تكتسب الجماهير الوعي تتحول إلي طاقة جبارة لا تقهر و لا تهزم) و أضاف قائلا أن السياسات التي تغض الطرف عن الحلول الوطنية لمعالجة أزمات الوطن اعتمادا على الموارد المحلية و تلجأ إلي الديون الخارجية تلحق الخسائر بالوطن” و عن مسيرة 3 يونيو قال أننا نصر على استكمال الثورة و المطالبة بتحقيق العدالة و القصاص” و قال “أن شعارات الثورة كانت كانت منتقاة بوعي ثوري كامل، فكانت الثورة خيار الشعب” ثم قدم وثيقة بعنوان ( السودان؛ الأزمة و طريق استرداد الثورة) تقول الوثيقة “أنها تهدف إلي إلي تأسيس دولة مدنية ديمقراطية قائمة علي المواطنة، و تحقيق قواعد السلام و الوحدة في التنوع و إصلاح القوات المسلحة و النظامية و ينحصر دورها في جحماية أمن و حقوق و حريات كافة المواطنين و حماية الحدود و الأرض و الثروات و تعمل تحت أمرة القوى المدنيةبعقيدة الولاء للوطن و الديمقراطية و الدستور” الوثيقة تعتبر نقلة متقدمة من الحزب الشيوعي، و الخروج من دائرة الاتهامات و فرض الشروط إلي تقدم مبادرة وطنية بهدف خلق حوار سياسي و حوار مجتمعي، و الحواران يصبان في كيفية تحقيق شعارات الثورة. أن المقولات التي بدأ بها الخطيب حديثه تعتبر قضايا تهم الحزب، و لكن الوثيقة تعد رؤية مطروحة للحوار.
أن الساحة السياسية في أمس الحاجة أن تنقل من الشعارات التقليدية و حالة الهتاف إلي طريق العقل، و الذي يحتاج أن يلتزم الجميع قواعد الحوار و المطنق. هناك العديد من القضايا التي تتفق عليها القوى السياسية و الشارع، و هناك من القضايا تحتاج التعامل معها بحكمة، و جميعها تتطلب بيئة تساعد علي الحوار، و لابد أن تخرج القوى السياسية من حالة الاحساس ” بالمنتصر و المهزوم” ليكون لها الاستعداد الكامل للحوار مع الأخر. و يجب البحث عن الطرق التي تؤدي إلي الأرضيات المشتركة. أن الساحة السياسية في أمس الحاجة للعملية التثاقف الوطني الديمقراطي، تحتاج أن تكون صدورنا متسعة لقبول الرأي الأخر دون ضجر، بعيدا عن حالة العلو التي تتوهمها بعض القوى السياسية، الكل يحتاج لمرحلة التثاقف و مرحلة تبادل الأفكار، فعملية البناء الوطني تتطلب تضافر الجهود التي يجب أن يشترك فيها الجميع، و ما جاء في الوثيقة التباين و التنوع، رغم أن المصطلحين يشران الشخص بالاختلاف لكنهما عنصران مهمان لعملية الوعي السياسي الديمقراطي.
حري علي طليعة الحزب الشيوعي المثقفة أن تفتح العديد من النفاجات التي تطل بها علي الآخرين، و تفتح باب الحوار حول الوثيقة، بعيدا عن أي شروط مسبقة. فالقوى السياسية التي تنتقل من مرحلة الجدل الشفاهي إلي الحوار الفكري هي تؤمن بالرآي و الرآي الأخر، باعتبار أن الحوار ليس فقط يطور الوثيقة، ربما يخرج بوثيقة تجد القبول من الجميع، و تشكل أرضية لحوار دستوري. أن الحوار و استمراريته هو أيضا يشكل الارضية الجيدة لإنتاج ثقافة ديمقراطية. و كما يقول الدكتور المغربي عبد الاله بلقزيز في كتابه ” في البدء كانت الثقافة” يقول ” لقد باتت الحاجة ماسة للمثقف المتطلع إلي ممارسة دور تاريخي فعال في الارتقاء بعملية التوجيه الاجتماعي السياسي إلي الانتقال في وعي عملية التغيير من الاشكالية السياسية إلي الاشكالية الاجتماعية، و هذا يفترض نجاحا في عمله الفكري جوهريا يصير بمقتضاه قدارا علي ممارسة نقد مزدوج ( نقد السلطة و نقد المجتمع)” إذن يتطلب من الزملاء الانتقال من حالة أحادية الفكرة إلي الأفكار المفتوحة، أي من فرض شروط بموجب الفكرة إلي التعامل بحوار أريحي مع أفكار الآخرين. معلوم أن النظم الشمولية التي استمرت طويلا في البلاد قد حدت من إنتاج ثقافة ديمقراطية يمكن الانطلاق من أرضيتها، و أن كان الأرضية هشة يجب تقويتها بتعدد منابر الحوار. الكل وصل لقناعة أن البلاد لا يمكن أن تحكم بتيار فكري واحد، أو ممارسة إقصاء للتيارات الأخرى، و هذه تعود محمدة. فهل أدركت النخبة السياسة ضرورة نجاح قضية التحول الديمقراطي؟ و هل هي مبدئية أم أنها ترفعها كشعار تكتيكي؟ الأيام تثبت صدق النوايا، فالكل مطالبين أن يلزموا جانب العقل و الحكمة. و هي خطوة جيدة أن ينطلق الحزب الشيوعي من وثيقة يطرحها للحوار. و نسأل الله حسن البصيرة.

صحيفة الانتباهة

Exit mobile version