صديق البادي يكتب: جلسة مع الراحل الطيب مصطفي قبل ربع قرن بود مدني

رحل من دار الفناء إلي دار البقاء الباشمهندس الطيب مصطفي تقبله الله قبولاً حسناً وأدخله فسيح جناته . وكان الراحل ملء السمع والبصر مثيراً للجدل وفي حالة سجال وعراك متصل يأخذ بعضه بخناق بعض وكأنه يتمثل بقول العلامة بروفسور عبد الله الطيب عميد الأدب العربي الثاني بعد دكتور طه حسين .

أروم من الزمان مداً بعيداً وحدت عن القتال ولا محيدا

ولعله لم يكن يتعارك مع الآخرين ويشتد ويحتد معهم من أجل مغنم ومأرب شخصي أو مسألة ذاتية ولكن يبدو أنه كان صاحب قضية يدافع عنها بشراسة من منطلق مبدئي بألفاظ فظة أحياناً وعبارات تفرد بها وحده ولا تهمه ردود الأفعال ولعله كان يتمثل بقول المتنبئ :ـ

أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصموا

والمرة الأولي التي التقيت فيها بالمهندس الطيب كفاحاً كانت بمدينة ود مدني قبل ربع قرن من الزمان تقريباً وكان اللقاء في دار آل الخطيب العامرة وقد جئنا نعزيهم في والدهم رحمه الله . وأخذني الصديق العزيز جم الأدب والتهذيب والخلق الرفيع الأستاذ هاشم الخطيب رحمه الله وأجلسني قرب الباشمهندس الطيب مصطفي الذي كان يجلس منفرداً بعيداً عن الآخرين وأراد هاشم رحمه الله أن يجد له أنيساً وذكر لي اسمه فقلت له انه مدير التلفزيون وقبلها كان مديراً لوكالة أنباء السودان وذكر له هاشم رحمه الله اسمي فرد عليه قائلاً إنني أقرأ له كثيراً وأنا عاتب عليه ولي علي كتاباته تحفظات ومآخذ وأود أن أقدم له بعض النصائح وقال مداعباً انه يحتاج لقرصة في أذنه لئلا يسرح ويمرح ويكتب ما يشاء (وعامل فيها ما سائل في زول ) فقلت له خذ راحتك وقبل أن يبدأ في الهجوم أسمعني كلمات طيبة وقال لي لو كنت شيوعياً أو علمانياً لأهملتك وأدرت لك ظهري ولكن لي أمل في ضمك للمسيرة القاصدة ونحن نرضي عنك حيناً حتي نحسب أنك جزء منا ونغضب منك أحياناً ونعتبرك من غلاة المعارضين ( وعامل فيها ) مستقل ومحايد وهذا زمان تمايزت فيه الصفوف ويوجد صفان لا ثالث لهما هما صف الحق والإسلاميين وصف الباطل والعلمانيين والمرحلة تحتاج لرساليين أقوياء أشداء علي الباطل ولا مجال للمنبطحين أو الذين يلعبون علي الحبلين ويركبون علي سرجين ويمشون علي دربين ولا نعرف حاجة اسمها مستقلين ومحايدين وهؤلاء كانوا يعرفون في الجامعة باسم جماعة البيبسي كولا ويا أخي إما أن تكون مع الرساليين وإما أن تكون مع العلمانيين أعداء الدين علي حد تعبيره وشن حملة علي من وصفهم بالإنتهازيين المتسلقين الذين ركبوا الموجة وتقدموا علي أهل الدار وهم من غير أهلها الأصلاء وقلت له أزيدك من الشعر بيتاً فأنا عضو مجلس محافظة ومستقل تمام الاستقلال وعضويتي كاملة غير منقوصة وعلاقتي طيبة مع جميع الأعضاء بالمجلس وأسمع بأن هناك شيئاً اسمه التنظيم ولا تربطني به علاقة من قريب أو بعيد ولست عضواً فيه وبالتالي فأنا غير ملزم داخل المجلس بتوجيهاته أو قراراته أما في الندوات المفتوحة التي أحضرها في العاصمة القومية أو خارجها فانني آخذ فرصتي في الحديث والحرية بالنسبة لي هي حق وليست منحة وان من حق أي مواطن مهما كان مشربه الفكري أو لونه السياسي أن يعبر عن رؤاه بحرية لأن له حق أصيل في هذا الوطن . وأرجو أن يتسع صدرك لتسمع مني حديثاً فيه لمسات من هنا وهناك ( سمك لبن تمر هندي ) أو كجلباب درويش يضم رقعاً أحجامها وأشكالها مختلفة وهي أقوال إنسان عادى من غمار المواطنين وإذا لم ترق لك اعتبرها كلام الطير في الباقير فقال لي أريد أن أسمع لنقف علي طرف من الذي يتم تداوله في الشارع فقلت له ان سمعة النظام الحاكم في مجال حقوق الإنسان رديئة للغاية وأقف هنا علي سبيل المثال لا الحصر عند حالتين متناقضتين أولاهما أن عدداً من الشهود يؤكدون أن السيد سيد أحمد الحسين القطب الاتحادي الكبير والذي تولي وزارة الداخلية ثم وزارة الخارجية في عهد التعددية الحزبية الثالثة أعتقل ولو كان اعتقالاً تحفظياً لما كان في ذلك غرابة ولو أجري معه تحقيق كفلت فيه العدالة لما كان في ذلك غرابة ولكن يؤكد الشهود أنه وضع داخل جهاز الأمن في احدي غرف التعذيب ورفع وربط من ذراع يده المبتورة ومورست عليه عمليات التعذيب بطريقة الطيارة قامت مع الضحكات والاستهزاء دون مراعاة لكبر سنه وإصابته بداء السكري وكانوا يريدون الضغط عليه ليصدر بياناً يؤيد فيه النظام الحاكم ويدين النظام الحزبي الذي كان أحد أقطابه ولكنه رفض وصمد وتحمل كل أذاهم وتعذيبهم وقلة أدبهم وعلي النقيض من ذلك ضبط بعض المجندين في جهاز الأمن من شباب الإسلاميين الصادقين أحد رجال النظام الحاكم ومعه إمرأة يمارسون الفاحشة وبعد ضبطهم أخرج لهم المقبوض عليه بطاقة ليؤكد لهم أنه شخصية مهمة وأخرجوا له مسدساتهم وأجبروه علي التوجه لمكاتب الأمن وأجلسوه علي الأرض ووجهوا له عدة صفعات ولكنهم أصيبوا بخيبة أمل عندما علموا أن من بالجهاز أخطروا قيادات عليا بما حدث وصدرت لهم أوامر من قيادات عليا رفيعة في الدولة والتنظيم والحزب الحاكم بإخلاء سبيله وسبيلها فوراً حفاظاً علي سمعة النظام والتنظيم وتم زجرهم وتحذيرهم من إفشاء هذا السر أو التطرق لهذا الموضوع إن كانوا حريصين علي سمعة النظام والتنظيم وتقلب بعد ذلك من أطلق سراحه في المواقع ولا زال الشباب موجودين وقد تخلوا عن التنظيم وتركوا الجهاز منذ أمد بعيد وأحدهم وهو إنسان فاضل موجود حي يرزق اتجه للتصوف ويذكر تلك الحادثة بمرارة ولك أن تقارن بين حالة إنسان كبير طاعن في السن مصاب بالسكري يعذب في المعتقل بسبب معارضته وعدم تأييده للنظام وبين إنسان يقبض عليه وهو متلبس بإرتكاب جريمة قذرة يطلق سراحه ليسرح ويمرح كما يشاء وقطعاً إن في هذا ظلم وتفرقة في المعاملة لا تمت للإسلام والأخلاق بصلة . وقلت له إن أستاذاً جامعياً من حملة شهادة الدكتوراه أنتدب للعمل مديراً أو أميناً عاماً لأحدي الهيئات بعقد وراتب قدره تسعة آلاف جنيه في الشهر وعلم فيما بعد أن مديري هيئات مماثلة بذات الوزارة كانوا يعملون بالخارج أو انتدبوا من الداخل تم التعاقد مع كل منهم بخمسة وعشرين ألف جنيه في الشهر رغم أن مؤهلاتهم وخبراتهم أقل منه والفرق بينه وبينهم أنه لا ينتمي للتنظيم وتساءل هل في هذا عدالة في ظل نظام يرفع شعارات إسلامية ويستعملها عدة شغل كما يستعمل النجار أدوات النجارة ويستعمل من يبني أدوات البناء وامتعض الباشمهندس وقال لي إن أية نظام في الدنيا فيه مثل هذه الأشياء وهذه ترهات وسفاسف وصغائر امور والمشروع الإسلامي أكبر من ذلك وسننطلق به في آفاق الدنيا الرحبة . واستطردت قائلاً إننا أصحاب الأغلبية ولنا حقنا الذي ينبغي أن نناله كاملاً غير منقوص وان علينا أن ندافع أكثر عن حقوق الأقليات وينبغي أن تنالها كاملة غير منقوصة وهناك مشتركات تجمع بين الجميع بحكم المواطنة التي تظلنا جميعاً . وان للمجتمعات قانون تطور يجب عدم القفز فوقه …. وشوقي في همزيته التي مدح فيها حبيبنا وشفيعنا خير البشر أجمعين سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم قال شوقي ( داويت متئداً وداووا سراعاً واخف من بعض الدواء الداء ) وسألته هل وقفت علي تاريخنا الاجتماعي وبدأت أذكر له بعض المراجع مثل حقيبة الذكريات للبروفسور عبد الله الطيب وملامح من المجتمع السوداني للأستاذ حسن نجيلة وكتاب الأنداية للأستاذ الطيب محمد الطيب وقبل أن استطرد بدأ عليه الغضب وأخذ يتمتم بكلمات غاضبة أعوذ بالله أعوذ بالله ( كمان جابت ليها أنداية !!) وهنا استأذنت منه وانصرفت وخرجت بإنطباع إنه إنسان متصالح مع نفسه وما في نفسه يكون علي طرف لسانه ومثل هذا يؤمن جانبه لأنه يتصرف جهاراً نهاراً ولا يتآمر في الظلام ويضرب تحت الحزام . ومن خلال ما ظللنا نقرأ له بعد أن اتجه للكتابة بصورة راتبة نشهد بأنه وبغيرة دينية من أكثر الحريصين علي الاستقامة في السلوك وصون العروض والمحارم ويشاركه في ذات الدرجة والمقدار من خلال ما ظللنا نقرأ له في الحرص علي الاستقامة وصون العروض والمحارم من منطلق ديني وأخلاقي الصديق الأستاذ صلاح الدين عووضة .

وبعد سنوات من ذلك اللقاء صدرت صحيفة الانتباهة وكتبت فيها عدداً من المقالات وبعد فترة ليست قصيرة أخطرت بأن الباشمهندس الطيب مصطفي صاحب امتيازها يرغب أن أكون كاتباً راتباً بالصحيفة وعليَّ أن أفاضل بين كتابة خمسة أعمدة اسبوعياً أو كتابة مقالين في الإسبوع وطُلب مني مقابلته فقلت لهم إنني أحبذ كتابة مقالين في الأسبوع وسأشرع في ذلك فوراً وليس لي شروط ولا يحتاج الأمر لمقابلة وأخذ ورد والمهم بالنسبة لي هو مقابلة ومعانقة السيد القارئ المحترم والسنة كما هو معروف فيها أربعة وخمسين اسبوعاً أي أن ما أكتبه في العام من المقالات مائة وثمانية وعند توقف الصحيفة الورقية لعدة أشهر تضاعف عد المقالات التي أنشرها بالإنتباهة أون لاين ومجموع ما كتبته من مقالات يزيد علي الألف ظللت أرسلها عبر البريد الإلكتروني وطيلة تعاوني معهم أشهد بأن التعامل راقي وفيه إحترام بين الطرفين و لم أقابل الباشمهندس الطيب كفاحاً داخل الصحيفة أو خارجها ولكن في احدي المرات أخبرني الصديق العزيز الأستاذ كمال عوض مدير التحرير وقتئذ أن الباشمهندس الطيب مصطفي يود أن يتحدث معي وكتب لي رقم جواله وعندما اتصلت به طلب مني ن اقفل الجوال الذي أحمله وسيتصل هو لأن الإنس سيطول بيننا وحياني تحية طيبة واسمعني كلمات عذبة وكانت طريقة حديثة محل دهشتي وكنت أظن وبعض الظن إثم ان المسألة ستكون فيها حديث عن الانبطاح ومسائل من هذا القبيل وشكرته علي ما تفضل به من كلمات طيبة وقلت إنني أحد جنود الصحيفة وأساهم بدلو صغير فيها ضمن دلاء كثيرة بعضها مشاركته أكبر وأكثر نفعاً ويوجد بالصحيفة جنود كثيرون مجهولون مرابطون لا تظهر أسماؤهم ويبذل كل منهم مجهوداً كبيراً أما أنا مثلاً فاقتطع جزءً من وقتي وأرسل ما اكتبه بالبريد الالكتروني ومهمتي أسهل من مهامهم ( والخيل تجقلب والشكر لي حماد ) وذكر لي أن أمين التنظيم بحزب المؤتمر الوطني الذي كان وزيراً للأوقاف والشؤون الدينية اتصل به وكان منزعجاً بسبب مقال كتبته وذكر لي الباشمهندس أنه أعاد قراءة المقال ووجده متوازناً ليس فيه إساءة أو تجريح لأحد وتضمن أرقاماً وحقائق ومعلومات موثقة وهو يتفق معي تماماً في كل ما أوردته ولكن وفاءً بالعهد سيخطره أنه أتصل بي وتحدث معي ومرت هذه المسألة بيني وبين المهندس مر السحاب ومن جانبي لم يحرك فيَّ ما ذكره ذلك المسؤول ساكناً لأنني واثق من الأرقام والحقائق والمعلومات الموثقة التي ذكرتها وإذا رضي أو غضب فإن هذا أمر يخصه . وتآنسنا وقلت له إن أمريكا صاحبة السطوة والقوة هي التي قررت فصل الجنوب ويؤيدها ويؤازرها منتمون لدول ومنظمات غربية كثيرة والطيب مصطفي فرد صاحب رأي وليس صاحب قرار ولا يستطيع فرد واحد ولا منبره فصل الجنوب وإذا كانت القوى والدول التي اشرت إليها آنفاً رافضة لهذا الإنفصال الذي انحاز وصوت له الجنوبيون في الإستفتاء بأغلبية كاسحة وهم أصحاب القرار لما تم وقلت للأستاذ الطيب إن بعض جماعتكم الحاكمين يتسمون بقدر كبير من الدهاء ويتمتعون بقدرات في التمثيل والدراما تفوق قدرات الممثلين والدارميين الكبار مثل الأساتذة مكي سنادة وعلي مهدي ومحمد شريف علي وغيرهم وقد أنفقوا أمولاً طائلة في مشروعات باسم الوحدة الجاذبة وما دفعوه يمكن أن يعتبروه كرامة وسلامة للإنفصال وهم معه مخبراً وضده مظهراً وهم علي يقين إن الإنفصال سيقع وعندما وقع بالفعل أخذوا يرددون أنهم سعوا للوحدة الجاذبة والجنوبيون هم الذين اختاروا الإنفصال والطيب مصطفي وجماعته هم الذين نادوا بالإنفصال أي أن اولئك المسؤولين اتخذوا منكم واجهة وظلوا هم وراء الستارة في المسرح وزاد الطين بله ذبحكم لثيران سوداء احتفالاً بالإنفصال وهو أمر غريب عجيب ولذلك وصفوكم بالعنصريين ووصفت أنت علي الأخص بأنك عنصري وبإنفعال رد علي الطلاق بالثلاثة ( أنا ما عنصري) وعندما كنت أعمل بالأمارات وأعود للسودان في الاجازات كنت ازور شيخي حسن الترابي وعندما علمت مرة قبل سنوات خلت أن الإبن أو الأخ الأصغر أبوبكر دينق رئيس اتحاد طلاب جامعة القاهرة فرع الخرطوم تزوج شمالية ذهبت لمنزل شيخي حسن الترابي وهللت وكبرت وقلت نريد ان تكثر وتنتشر مثل هذه الزيجات بين الجنوبيين والشماليات وبين الشماليين والجنوبيات ومع ذلك يقولوا إنني عنصري وعلي الطلاق بالثلاثة أنا ما عنصري وصهرنا وصديقنا الأستاذ أمين بناني نيو زوج شقيقتنا نتعامل معه باعتباره شقيق وصهر ووالدتي رحمها الله كانت تعتبره ابنها البار ووالدي رحمه الله كان يعتبره صهره وابنه وصديقه وكانا يذهبان معاً لأي مناسبة عائلية أو اجتماعية ومع ذلك يقولون إنني عنصري ….. وعندما علمت بوفاة المهندس الطيب وأنا بعيد عن العاصمة ترحمت عليه وتلوت أجزاءً من القرآن علي روحه وندعو الله سبحانه وتعالي أن يغفر له ويتجاوز عن سيئاته ويجعل قبره روضة من رياض الجنة .

صحيفة الانتباهة

Exit mobile version