(1)
من أشهر الطرف ذات المغزى التي كانت تروى في المدارس قصة الطالب الذي عجز عن القيام بواجبه في استذكار دروسه، واعتمد على التخمين في استعداده للامتحان، فاجتهد في حفظ سياسة بسمارك الخارجية متوقعاً بضربة لازب أنها ستكون محور الامتحان، وأُسقط في يده حين جاء السؤال عن سياسة بسمارك الداخلية التي لم يلق لها بالاً، ولذلك حاول الخروج من ورطة فشله، بشيء من الفهلوة عسى ولعل، بأن الإجابة على هذا السؤال تستلزم معرفة سياسته الخارجية أولاً، وبالطبع كان سقوطه محتوماً، ذلك أن آخر ما يفلح في مواجهة الحقائق وتحديات الواقع وترتيب الأولويات بصورة صحيحة يمكن أن يتحقق بالهروب إلى أجندة انصرافية بامتياز، وإيهام النفس بإنجازات خارج السياق.
(2)
في ظل حالة الفراغ السياسي العريض الراهن واضطراب منظومة الانتقال بكامل تمثلاتها المدنية والعسكرية الى تزداد تصدّعاً واقترابها من الفشل التام في تحقيق مهام المرحلة سياسياً واقتصادياً وأمنياً وعدلياً، مع تزايد الاحتقان الاجتماعي ونُذر المواجهة الوشيكة بين الشارع والطبقة الانتقالية الحاكمة، لا يخالجني شك في أن أهم خطاب سياسي هو ما جاد به السيّد رئيس الوزراء في المؤتمر الصحافي الذي عقده عند عودته قادماً من باريس رداً على سؤال عن تأثير الأوضاع الداخلية المنذرة هذه على مناخ وبيئة الاستثمار وانعكاسات ذلك على فرص تحقيق ما أسفرت عنه فعاليات مؤتمر باريس التي بشّر بها.
(3)
وعلى الرغم من الأهمية الجوهرية لهذا الموقف في ظل الأوضاع المأزومة الراهنة فقد غفلت عنه وسائل الإعلام منشغلة بالترويج لانفتاح عالمي ورسم صورة وردية تبدواً ترفاً والمشهد كله في حالة تداعٍ، فقد أقر الدكتور حمدوك في إجابته بتأثير تبعات الوضع الداخلي على مناخ وفرص الاستثمار في السودان بقوله “إن هذا التحدي الداخلي ليس تحدي العالم، بل هو تحدينا نحن هنا في السودان”، مضيفاً “العالم معجب بالنموذج السوداني، نحن لم نذهب باريس لخداع العالم بأن هناك أمرا غير طبيعي، ولكنها تجربة حقيقية تمثل جديداً في محيطنا، والتحدي كيف نستطيع العبور ببلدنا بتوافق لتكفيها شرور الانتقال التي شهدتها بلدان قريبة منا”.
(4)
ولعل أهم ما خلص إليه د. عبد الله حمدوك تأكيده على “أن هذا التحدي لن يعالجه ماكرون، ولن تعالجه امريكا، ولا الصين، ولا السعودية، ولا مصر، ولا روسيا، ولا أي بلد آخر، لن يعالجه أحد غيرنا نحن السودانيين”، وأضاف “يجب ألا نصدّر قضايانا، ومشاكلنا وتعقيدات هذا الانتقال للخارج”، وللأسف الشديد فإن هذا ما يحدث حالياً بالفعل في ظل سباق أطراف الطبقة الحاكمة المختلفة التي تتسابق للاستنصار بأطراف خارجية.
وقال د. حمدوك ” إن باريس فتحت امكانية حقيقية للبلد لتمضي إلى الامام في تصالح مع نفسها، وليقف الجميع وقفة حقيقية لتجاوز فشلنا على مدار 65 سنة في تحقيق المشروع الوطني الذي يوحدنا، الآن الوقت مناسب في ظل المناخ الدولي المواتي، نحتاج نتحاور لنرى كيف نصنع المناخ الذي يمكننا من الاستثمار من كل هذا الزخم واعجاب العالم بالتجربة السودانية” معتبراً ” أن الكرة في ملعبنا”.
(5)
صحيح هذه ليست المرة الأولى التي يتحدث فيها د. حمدوك عن غياب المشروع الوطني، الذي طالما طرق عليه بإلحاح دون مجيب من الطبقة السياسية اللاهية، لكن خطابه هذه المرة يكتسب أهمية استثنائية لأنه جاء أكثر وضوحاً طارحاً قضية بالغة الخطورة في ظل حالة الاستلاب والتسابق الجمعي نحو الخارج التي تكاد تحيط بجميع الطبقة الحاكمة عسكرياً ومدنياً في ظل عجز وطني غير مسبوق على هذا النحو لم تشهد له البلاد مثيلاً في تاريخها، ومن عجب أن يسود هذا الوضع البالغ الشذوذ باسم ثورة شعبية سمقت تضحيات الجيل الذي حمل لواءها من أجل التحرر والحرية، وما يؤسف له انسياق طائفة ممن يعدون بين النخب يهللون لهذا الانجرار للأجندة الأجنبية تحت لافتة برّاقة بدعوى فك العزلة والإندماج في المجتمع الدولي الذي ظل يمارس الضغوط على سلطات الحكم الانتقالي لفرض سياسات فاشلة ثبتت كلفتها الاجتماعية الباهظة التي لن تلبث أن تقود إلى المزيد من زعزعة الوضع الانتقالي المهزوز.
(6)
وثالثة الأثافي أن دعوة السيد رئيس الوزراء، التي جاءت لتوقظ الجميع من سبات الخلود للحلول الخارجية والتعويل المبالغ عليها، والركون لتسويق آمال عراض على حلول خارجية سحرية، وبدلاً من الاستجابة لها بالعمل على توسيع قاعدة التوافق الوطني، فإذا بفصل جديد من الانقسام و التشرذم تشهده ساحة قوى الحرية والتغيير المنقسمة على نفسها اصلا نتاجا لمزيد من الصراع العبثي على السلطة لتزيد الأمور ضغثاً على إبالة، فماذا بقي من النموذج السوداني ليعجب به العالم؟!
خالد التيجاني
صحيفة السوداني