لولا سماعي للقصة من شاهدين عدلين، لما صدقتُ ما حدثَ وقيل في تلك الجلسة..!
في سجن كوبر، ضحك السيد يوسف عبد الفتاح، ضحكةً فاجأتْ مجالسيه.
ثم روى هذه القصة المُثيرة للدهشة والتعجُّب والحاضّة على العبرة والاعتبار، يحكي يوسف:
في ٣٠ يونيو ١٩٨٩ كنت مكلفاً بالقبض على الأستاذ محمد إبراهيم نقد سكرتير الحزب الشيوعي.
أتيت به إلى الشرقيات بكوبر، في زنزانة عتيقة، مكتوب على أحد حوائطها، أسماء من كانوا ضيوفاً عليها في حقب مختلفة، منذ الزعيم اسماعيل الأزهري الى آخر معارض سياسي..!
قبل مُغادرتي الزنزانة، طلبت من نقد أن يكتب اسمه على الحائط، ضحك الرجل، ثم قال لي: (ما حا كتب اسمي ولكن حيجي يوم حتكتب إنت اسمك هنا)..!
فعلاً، قام السيد يوسف عبد الفتاح بكتابة اسمه في ذات الزنزانة التي اُعتقل فيها نقد قبل ٣٠عاماً..!
الأسماء على الحائط العتيق، في تلك الزنزانة الشرقاوية المجاورة لمنتظري تنفيذ حكم الإعدام، تلخص تاريخ التقلبات السياسية في السودان منذ خروج المستعمر الى اليوم.
هذا ما وصفه الدكتور التجاني عبد القادر بمكر التاريخ، حكام اليوم مساجين الغد والعكس.
-٢-
في مراتٍ، أسجِّل زيارات متفرقة لدار الوثائق، أقضي الساعات الطوال هناك في ضيافة التاريخ.
أقلِّب وأتأمّل في الصحف القديمة، بل بمعنى أدق في الأحداث والتصريحات، ومواقف الرجال وهم على قول الشاعر عبد القادر الكتيابي (يُمارسون لعبة الألوان في كل المحافل)..!
السياسة في قاموس ساستنا هي مقدرتُك على فرض إرادتك على الآخرين، ليس مهماً إن كان ذلك عبر صناديق الاقتراع أو صناديق الذخيرة، لا فرق..!
السياسي ينتقل من موقفٍ لآخر دون أن يدفعَ رسوم انتقال، فهو لا يعتذرُ عن خطئه في تقدير الموقف الأول، و لا يُبرِّر لموقفه الجديد.
ينتقلون مع (أشعب وبنان) من مائدةٍ لأخرى دون أن يغسلوا أياديهم.
فالمواطن السوداني – في نظرهم – بسيطٌ وساذجٌ وانفعالي تأسره اللحظة وتغيب عنه العبرة، ذاكرتُه أصغر من ذاكرة (النمل)..!
المُفارقات السياسية تملأ الكتب والمجلدات وتفيض، تتغيّر المواقف بتغيُّر المواقع، تتكرّر التجارب ويختلف المُجرّبون، تتكرّر بصورة دائرية، مثل إعلانات الشاشات المُضيئة..!
-٣-
عزيزي القارئ استسمحك في عرضِ بعض هذه المُفارقات التي قد تثير غضب البعض واستياء آخرين:
السيد بابكر عوض الله، هو السياسي السوداني الوحيد الذي تقلد رئاسة السلطات الثلاث (التشريعية- القضائية- التنفيذية).
استقال من رئاسة القضاء دفاعاً عن نص دستوري واحد في قضية حل الحزب الشيوعي 1965، ولكن ذات الرجل مزّق كل نصوص الدستور، حينما شارك في انقلاب مايو وأصبح رئيس وزراء..!
الأستاذ/ عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي، ظل يُقاوم التيار الانقلابي داخل الحزب ويدعم الخيار الديمقراطي ولكن صحف دار الوثائق تقول إن الرجل أيّد انقلاب مايو وسعى لاستقطاب الدعم له من المعسكر الاشتراكي في مؤتمرات براغ واجتماعات موسكو، وخطّط لتصحيح الانقلاب بانقلابٍ آخر 19 يوليو..!
-٤-
السيد/ الصادق المهدي صاحبُ (الديمقرطية عائدة وراجحة)، هو ذات الصادق الذي شارك في نظام الحزب الواحد في عهد نميري، ونظر له وأدان النظام التعددي بتصريحات محفوظة في دار الوثائق وبكتاب عبد الرحمن محمد عبد الرحمن (مَن ضَيّع السودان)؟!!
-٥-
الشيخ/ حسن الترابي الذي أشعل ثورة أكتوبر بندوة جامعة الخرطوم هو الذي خطّط لانقلاب الإنقاذ وسخر من أكتوبر في ندوة شهيرة بذات الجامعة في 1993، وحينما خرج من السلطة في 1999 عاد لتمجيدها مرة أخرى..!
لا تنتهي المُفارقاتُ إلا لتبدأ من جديد، ولا يبقى في كأس العِبر ما يُوقظ العقل ويبلِّل الوجدان.
-٦-
ما أكثر العِبر وأقل الاعتبار:
في أيام سطوة الشيخ الترابي 1993م، اعتقل الصادق المهدي وعُومل معاملة خشنة وقاسية.
أُجلس على مقعد بثلاثة أرجل، لساعات طوال، وذهب ثلاثة من الصحفيين للترابي محتجين على اعتقال المهدي وسُوء مُعاملته.
لم يجدوا من الشيخ سوى السخرية والتبرير وتناول وجبة الغداء..!
-٧-
في 2004م اقترب المهدي من محالفة الإنقاذ، واعتُقل الترابي في زنزانة صغيرة، وكان أهم خبر تناقلته الصحف وقتها، أن فأراً شريراً قام بعضِّ الشيخ في رجله..!
الفريق صلاح قوش، الذي أجلس المهدي على ذلك الكرسي واعتقل الترابي في منزل كافوري، اُعتقل في ذات المنزل ولا ذكر لذلك الكرسي!!
-٨-
والدكتور الحاج آدم الذي طارده قوش من قبل باتهامات المحاولة التخريبية عبر الصحف والجوائز، من أعلى مؤسسات السلطة وفي مؤتمر سياحي يهدد مدير المخابرات السابق بسيف الحسم!!
دخلت نملة وخرجت نملة وتلك الأيام نداولها بين الناس.
-٩-
(مساعد شرطة) قديم بسجن كوبر، يرتشف رشفة ذات صوت ومعنىً من كوب الشاي، ثم يعقبها قائلاً: (نحن ما بنزعِّل زول، عارفين مساجين اليوم هم حكام الغد، والعكس صحيح).
في مقابلة لنا، مجموعة من الإعلاميين مع الفريق عبد الفتاح البرهان بعد التغيير قلت له:
(عليكم تحسين أوضاع سجن كوبر، الزمن ما معروف)..!
ضحك الرجل ولم يعقب.
-١٠-
انقطاع التجارب وعدم تتابعها، وإهمال كُلِّ قادمٍ النظرَ في دفاتر وأوراق الماضي، جعلنا نُعيد إنتاج تجاربنا الفاشلة، ونُكرِّر أخطاءنا الفادحة، نقطة وشولة.
وكأننا في مسرحية عبثية دائرية، تتكرَّر فيها الفصول بذات الأحداث والوقائع، مع اختلاف أدوار المُمثلين وتغيُّر الأسماء.
– إخيراً –
لن ينصلح حال السياسة السودانية ويستقيم عودها، ما لم تتوقّف كتابة أسماء المعارضين على ذلك الحائط اللعين..!
ضياء الدين بلال
صحيفة السوداني