(1)
أصدر المجلس السيادي بياناً في أعقاب إقالته لرأسي المؤسستين العدليتين، القضاء والنائب العام، مستذكراً ببراءة يُحسد عليها أنه أقدم على هذه الخطوة، التي يدرك سلفاً أنه لا يمتلك الحق لاتخاذها، متذرعاً بأنها من اختصاصاته التي كفلتها له الوثيقة الدستورية “لحين تشكيل مجلس القضاء العالي” المختص بتعيين رئيس القضاء وقضاة المحكمة العليا، ورئيس وأعضاء المحكمة الدستورية، و”لحين تشكيل المجلس الأعلى للنيابة العامة” المختص بتعيين النائب العام.
(2)
بالطبع يدرك مجلس السيادة أن هذا الاختصاص كان استثناءً ظرفياً فرضته ملابسات الشروع في تشكيل هياكل السلطة الانتقالية في أغسطس 2019، وبالتالي ليس اختصاصاً أصيلاً مستداماً، لقد كان السؤال الذي يجب أن يقدم له المجلس إجابة قبل سوق هذه التبريرات غير المقنعة ولا المقبولة، لماذا لم يتشكل أصلاً مجلس القضاء العالي، والمجلس الأعلى للنيابة العامة صاحبا الاختصاص الأصيل حتى بعد مرور واحد وعشرين شهراً على صدور الوثيقة الدستورية، و ما الذي يمنع ذلك، أو بالأحرى من يقف معرقلاً عن سابق قصد لتشكيلهما بعد انقضاء قرابة نصف الفترة الانتقالية؟!
(3)
وكما تعودت السلطات الانتقالية بمجلسيها السيادي والوزاري فقد واصلت نهجها في عدم احترام الرأي العام، والإمعان في مفارقة الشفافية فقد تجاهلت تماماً توضيح الملابسات والأسباب التي أدت إلى الإطاحة برئيس القضاء والنائب العام، واكتفت كما تفعل الآلة الإعلامية لأي نظام شمولي بإثبات صلاحية اتخاذ القرار دون اعتبار لمعطياته، على أية حال فقد أفتى مقربون للملأ الأعلى من الطبقة الحاكمة أن اجتماعاً التأم السبت الماضي على عجل للمجلس السيادي ورئيس الوزراء والمقالين في محاولة لتدارك تبعات استمرار السلطات الانتقالية في سفك المزيد من دماء الشباب الثائر الذي حصد نفسين عزيزتين ليلة 29 رمضان الماضي، وقيل أن المجتمعين صبوا جام غضبهم على ما اعتبروه تقاعس المؤسستين العدليتين عن القيام بواجبهما، وكما هو واضح من سياق الأحداث فإنه من الصعب إيجاد رابط بين القضاء والنائب العام في هذا الحدث تحديداً، ولكن في ظل الضغوط الشعبية القوية التي شكلتها هذه الجريمة النكراء على الطبقة الحاكمة، فضلاً عن توقيت وقوعها عشية مؤتمر باريس، فقد كان المطلوب البحث عن كباش فداء على أي حال لتخفيف هذه الضغوط لاستباق خطوات التصعيد المنتظرة من قبل الثوار.
(4)
وبغض النظر عن استحقاق رئيسة القضاء أو النائب العام للمحاسبة على أدائهما، وعلى الضعف البيّن في أداء المنظومة العدلية بكاملها، فإن آخر من يحق له القيام بذلك هو المجلس السيادي أو رئيس مجلس الوزراء، ذلك أنه من البديهيات أن القضاء والنيابة العامة مؤسستان مستقلتان بطبيعتهما، فضلاً عن مقتضيات الفصل بين السلطات، كما أن الوثيقة الدستورية على علّاتها أكدت بوضوح على هذا الفصل بين السلطات، وحدّدت آليات التعيين، ولا يملك المجلس السيادي صلاحيات سوى اعتماد هذه التعيينات من قبل مجلسي القضاء والنيابة العامة.
(5)
ولكن من الجلي أنه كما ابتلع المجلس السيادي، والقصد بالطبع شقه صاحب الشوكة في وجود ضيوفه من المدنيين، صلاحيات واختصاصات لا حصر لها للجهاز التنفيذي في السياسة الخارجية، والاقتصاد والسلام، وهلم جرا و”الحكومة التي يقودها المدنيون”!! تقف حائرة متفرجة عاجزة الحيلة، وكما احتكر المكون صاحب الشوكة دور المجلس التشريعي المغيّب مع سبق الإصرار والترصد، ها هو وقد خلا له الجو “يتم الناقصة” ويقدم على ابتلاع المؤسسات العدلية في القضاء والنائب العام، وقد سبقتهم إلى هذا المصير وزارة العدل، كما يحدث في أي نظام شمولي كامل السم.
(6)
ما يؤسف له مسارعة كثيرين الاحتفاء بالإطاحة برئيس القضاء والنائب العام على هذا النحو، باعتبارهما “معوقين للعدالة الثورية”، وما دروا أنهم بتشجيعهم لهذا النمط من الممارسات المفارقة لروح ونصوص الوثيقة الدستورية إنما يُساقون إلى شمولية جديدة وهم ينظرون، ومن الخفة بمكان استسهال الخروج على مقتضيات المؤسسية والفصل بين السلطات واستدامة انتهاك المرجعية الدستورية بهذه البساطة فقط لكسب إحساس بارتياح نفسي عابر ولأجل تصفية الحسابات مع شاغلي المنصبين المطاح بهما، متناسين أن القصور في المسار الانتقالي لا يقتصر على المجال العدلي فحسب، بل يتضاعف في ظل هذه الاستهانة بالاستحقاقات الدستورية من قبل شركاء الانتقال من العسكريين والمدنيين، وفي التواطؤ بينهما على عدم إكمال مؤسسات وهياكل الانتقال، ولن يجد الغافلون عن هذه الحقيقة وقتاً غداً للقول “أُكلنا يوم أُكل الثورة الأبيض”، حين يكتشف الجميع أن هذه أول ثورة سودانية ينتهي بها المصير عن غفلة وغيبة وعي من شمولية إلى شمولية دون حتى استراحة محارب، ولو لديمقراطية مأزومة قصيرة الأجل، وحينها “لات ساعة مندم”.
خالد التيجاني
صحيفة السوداني