تعرضت منظومة القبائل العربية الرعوية في دارفور بشقيها (بقارة وأبالة( ـ أي رعاة البقر ورعاة الإبل ـ طوال الثلاثين عاماً الماضية من حكم الإنقاذ الظالمة والباطشة، تعرضت إلى ظلم كبير وحيف كثير لا يعرف فداحته ولا يعلم مداه إلا المولى عز وجل وحده.
وتناوشتهم السهام من كل الاتجاهات (حكومة ومعارضة)، وعانوا الأمرين ما بين مطرقة الحكومة وسندان (بعض) الحركات الدارفورية المسلحة آنذاك، (حركات الكفاح المسلح اليوم)!.
فالبعض من المعارضة والحركات كانت تنظر إليهم وتصنفهم بأنهم تابعون وموالون لنظام الإنقاذ الذي دربهم ودعمهم بالسلاح والعتاد ورمى بهم في مواجهتها، فاعتبرتهم عدوها الأول والأخطر بل هم في فهمها (الأبالسة والشياطبن الكبار) الذين يجب القضاء عليهم وإبادتهم وسحلهم وحرقهم واستئصال شأفتهم ونفيهم من الأرض، وإعادتهم إلى (مضارب عبس وذبيان) في الجزيرة العربية!.
في الوقت الذي تعاني فيه القبائل الرعوية العربية في دارفور من الظلم والتهميش والجهل والأمية، وتفتقر مناطقهم ومضاربهم وقراهم و(حلالهم وفرقانهم) تفتقر لأبسط مقومات التنمية والخدمات وأساسيات الحياة من مستشفيات ومدارس ومشروعات الإعمار والتنمية؛ وغيرها من مقومات الحياة.
ويعاني (عربان) دارفور شظف العيش وهم يقطعون المسافات الطويلة وآلاف الأميال من السودان عبوراً لدول الجوار تشاد وأفريقيا الوسطى والنيجر وجنوب السودان، سعياً خلف مواشيهم وأبقارهم وإبلهم في رحلات النشوق والشوقارة (رحلة الشتاء والصيف) بحثا عن الكلأ والعشب (القش) والماء لدوابهم ومواشيهم.
يعيشون طوال العام حياة جافة وقاحلة وقاتلة عنوانها الأكبر والأبرز البؤس والفقر والشقاء والمسغبة والموت هم أحياء جسداً لكن لا فرق في عيشهم وهيئتهم ما بينهم وبين دوابهم بل حياتهم هذه تهرب وتجفل عنها حتى الأسود والذئاب والوحوش الضواري نفسها؛ وهم بقايا عظام وهياكل عظمية تدب فيها الروح و(تمشي على قدمين) عجفاوين؛ وهم ينطبق عليهم وصف المتنبي (كفى بجسمي نحولا.. إنني رجل لولا مخاطبتي إياك لم ترني)!.
هم الموتى الأحياء أو الأحياء الموتى؛ لا فرق والأمر سيان وكلا الوصفين ينطبق عليهم!
والأنكى والأمر من ذلك كله؛ أن تلك النظرة العدائية للقبائل العربية في دارفور استشرت وعمت بلواها ومرضها وسرطانها كل المجتمع الدارفوري (بفعل وصنيعة الإنقاذ طبعاً)، وأصبح وصف ونعت عربي أو كل من يحمل السحنات العربية أو من ينتسب لبني قحطان أو بني عدنان؛ هو المجرم الأكبر والعدو اللدود وهو قرين الشيطان الذي يجمع كل المساوئ وكل الموبقات!.
وترسخ في الوجدان الدارفوري تأسيساً على نهج الإنقاذ الشائن، أن العربي هو ذلك (الجنجويدي) القاتل والمغتصب والباطش الذي يحرق القرى ويقتل الأطفال وينتهك الأعراض ويغتصب النساء ويجب أن تفر منه كما يفر السليم من الأجرب أو يستوجب عليك أن تقتله للتخلص من شره!.
للأسف أفلحت الإنقاذ في زرع الفتنة والتفريق بين أهل دارفور وقسمتهم إلى (عرب وزرقة وأحرار وعبدان)؛ على الرغم من أنهم جميعهم ظلوا عبر تاريخ دارفور الطويل متعايشين ومنصهرين ومتزاوجين ونسبجاً اجتماعياً واحداً موحداً متماسكاً؛ اختلطت دماؤهم وأعراقهم وأنسابهم؛ حتى إنك لا تفرق أحيانا بين العربي وغير العربي؛ ذات الشكل وذات السحنات وذات الملامح!.
إن العرب لم يأتوا إلى دارفور ولم يدخلوها بعد مجيء حكومة الإنقاذ أو عقب (فتوحات الكيزان والحركة الإسلامية) بل هم جزء أصيل من المجتمع الدارفوري الأصيل والمتحد والمتماسك، منذ آلاف السنين، فما الذي استجد اليوم وجلب الفرقة والشتات والخلافات واستدعى بعث النعرات العنصرية!؟ إنها الفتنة التي غرستها الإنقاذ بين الأهل والأقارب في دارفور حتى تفرقهم وتضعف شوكتهم لتحكمهم وتتحكم فيهم إلى يوم الدين!.
وللأسف أفلحت ونجحت في ذلك!
إن الكثير من أبناء دارفور كانوا جزءاً من نظام الإنقاذ وشاركوا فيه بمختلف قبائلهم (عرب وزرقة) والبعض شارك و تورط في جرائم الإبادة والقتل لكن ذلك لا يحسب على أصله أو قبيلته أو جنسه ولا تحاسب به منطقته أو عشيرته بل يتحمل هو وحده جرمه ويبوء بإثمه بنفسه، ويلقى الله وحده بجرمه وجريرته يوم الجزاء الأعظم فيوفيه حسابه وعقابه بالعدل والقسطاط المستقيم؛ بلا حيف أو ظلم؛ وفق القانون الإلهي العادل (ولا تزر وازرة وزر أخرى).
ليس كل عربي في دارفور هو الشيطان أو هو محض الشر، وليس كل (غير عربي) هو منبع الخير ومبرأ من العيوب وملاك طاهر يمشي على قدمين؛ هم جميعهم بشر لهم أخطاؤهم وذنوبهم وسيئاتهم وحسناتهم (وكلكم خطاءون وخير الخطائين التوابون).
لقد آن الأوان يا أهل دارفور أن نعي جميعاً ما زرعته بيننا وغرسته في نفوسنا حكومة الإنقاذ البائدة، ونتحد ونتفق جميعاً (عرباً وزرقة) من أجل مستقبل دارفور وسلامها ونهضتها وتقدمها التي هي صمام الأمان وترياق الفتنة، لقد مزقتنا وأقعدتنا تلك الخلافات القاتلة كثيراً وطويلاً فهيا ننظف القلوب ونمد الأيدي بيضاء حباً وخيرًا وسلاماً من أجل نهضة دارفور وكل السودان.
صحيفة الصيحة