الثابت والمتغير في جرائم غسيل الاموال في التشريع السوداني وفي التشريعات المقارنة
1-2
ان من اكبر المخاطر الاجرامية الدولية التي تواجه المجتمعات البشرية الان وتهدده بالوقوع في براثن الفساد المالي والاداري والسياسي هي جرائم غسيل الاموال القذرة التي بلغ حجمها في العالم حسب احصائيات صادرة من صندوق النقد الدولي 950 مليار دولار – 1.5 تريليون دولار وتتمثل اكبر مصادرها من الاموال الناتجة من تجارة المخدرات المزدهرة عالميا والتي تعتبر الجريمة الام لجريمة غسيل الاموال بالاضافة لتجارة السلاح وتزييف العملات والتهريب والاختلاس والعمولات غير المشروعة والرشاوى والابتزاز والقماروتجارة الرقيق الابيض عبر العالم والتهرب الضريبي وغيرها ، ومن اهم المنظمات الدولية الاجرامية العاملة في هذا الصدد المافيا الصقلية الايطالية بتشكيلاتها المتعددة ومنظمات المافيا بالاتحاد السوفيتي سابقا المنتشرة في كافة انحاء اوروبا والعصابات الكولومبية بامريكا اللاتينية المتاجرة بالمخدرات ذات النفوذ الواسع بالقارة الامريكية وغيرها من المنظمات وشركات توظيف الاموال والتمويل الدولي والافراد، والتي وجدت سبيلها الي التطوير والازدهار وبالتغلغل الي الدول باستغلال سياسة الخوصصة ( privatization ) وهي بيع مؤسسات القطاع العام الي القطاع الخاص في ظل وجود جهات سياسية وادارية فاسدة في دول العالم تشرف علي تلك العملية وتحويل اغراضها التنموية الي واجهة لغسيل الاموال القذرة وكذلك استغلال ما يعرف بالمناطق الخصبة الصالحة لغسل الاموال وهي:
1 – الدول ذات الضوابط الصارمة جدا علي سرية اعمال البنوك بدرجة لا تستطيع معها الجهات العدلية المختصة النفاذ اليها للتحقيق واكتشاف هذه الجريمة وعدم وجود ضوابط لتحديد هوية العملاء لاجراء المعاملات المالية وفتح الحسابات مجهولة الاسماء او بأسماء مستعارة وتراخي ضوابط التعامل بالنقد الاجنبي بها.
2 – سهولة تأسيس الشركات والبنوك والمؤسسات المالية ببعض الدول وسهولة دخول العملة وخروجها وانظمة استخدام الادوات النقدية التي تدفع لحامله ووجود انظمة مالية غير بنكية وعدم تسجيل وفرض رقابة علي المعاملات المالية الكبيرة.
3 – الدول التي لا توجد بها تشريعات تجرم غسيل الاموال ولايبلغ فيها عن معاملات مالية مشبوهة ومحدودية قدراتها علي اكتشاف جرائم غسيل الاموال.
4 – الدول التي بها مناطق تجارية حرة كبيرة ومراكز عالمية للتبادل المالي وبها عمليات مصرفية خارجية مكثفة وتجارة رائجة للذهب والمعادن الثمينة وتحويلات عملات وادوات نقدية فيما بين البنوك في ظل وجود فساد حكومي وتساهل اداري في الاوساط المصرفية والتجارية وتسهيلات ضريبية وجمركية ومصرفية خاصة.
تعريف جريمة غسل الاموال وآلية عملها:
يعرف الفقه جريمة غسل الاموال بأنها (تحويل الاموال الناتجة عن انشطة اجرامية الي اموال تتمتع بمظهر قانوني سليم من حيث مصادرها) او (هي اضفاء المشروعية علي العائدات غير المشروعة المستمدة من اي نشاط اجرامي) وقد عرف مشروع قانون مكافحة غسيل الاموال السوداني لسنة 2003م مرسوم مؤقت، صادر في 2 اغسطس 2003 غسل الاموال في المادة الثانية من الفصل الاول – غسل الاموال يقصد به اي عمل او الشروع في عمل يقصد به اخفاء المصدر الحقيقي للأموال المتحصلة من الجرائم المنصوص عليها في المادة 3 «2» وجعلها تبدو وكأنها مشروعة).
وقد عرفتها معاهدة فيينا اتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الاتجار غير المشروع في المخدرات والمؤثرات العقلية لسنة 1998 في المادة 3 «1» – ب – 1 – و 2 – بانها (تحويل الاموال اونقلها مع العلم بانها مستمدة من اي جريمة او جرائم منصوص عليها في الفقرة الفرعية« أ» ، من هذه الفقرة او من فعل من افعال الاشتراك في مثل هذه الجريمة او الجرائم بهدف اخفاء او تمويه المصدر غير المشروع بالاموال او قصد مساعدة اي شخص متورط في ارتكاب مثل هذه الجريمة او الجرائم علي الافلات من العواقب القانونية لافعاله).
2 – اخفاء او تمويه حقيقة الاموال او مصدرها او مكانها او طريقة التصرف في حركتها او الحقوق المتعلقة بها او ملكيتها مع العلم انها مستمدة من جريمة او جرائم منصوص عليها في الفقرة الفرعية« أ» ، من هذه الفقرة او مستمدة من فعل من افعال الاشتراك في مثل هذه الجريمة او الجرائم، وتنطبق هذه المواد علي غسل الاموال الناتج عن الاتجار في المخدرات باعتبارها الجريمة الام التي فرخت جريمة غسل الاموال حاليا واخذ بها المشرع السوداني ، ونص علي جملة جرائم وترك الباب واسعا لاي جرائم اخري ذات الصلة وذلك في المادة 3 من الفصل الثاني فقرة 2 .
آلية عملية غسل الاموال: وتمر بثلاث مراحل:
أ/ مرحلة الاحلال( placement )
يقوم الغاسلون فيها بتحصيل الاموال الناتجة عن الجرائم المذكورة وايداعها في البنوك ومن ثم نقلها بواسطة الاوعية المصرفية الي الخارج، وهي اصعب مرحلة لاحتمال اكتشافها نتيجة للرقابة الشديدة المفروضة علي ايداع المبالغ الكبيرة وتحويلها من طرف الجهات القانونية المختصة، ففي الولايات المتحدة مثلا توجب القوانين علي البنوك التبليغ عن كل ايداع او تحويل بنكي يفوق مبلغ عشرة الاف دولار، وفي المانيا توجب التشريعات للبنوك التبليغ عن كل ا يداع اوتحويل يفوق خمسة وعشرين الف مارك او ما يعادله، اما في السودان فلم يحدد قانون مكافحة غسيل الاموال المبلغ الذي يوجب التبليغ وانما ترك الامر لتقدير البنك المركزي من خلال المؤسسات المالية في شأن اي حركة لاموال لا تتناسب مع المعدلات الطبيعية والواقع الاقتصادي للدولة، المادة (5) من الفصل الثاني من القانون.
ب/ مرحلة التغطية( lairing )
عند دخول الاموال القذرة الي النظام المصرفي يتم اخفاء علاقتها بمصادرها غير المشروعة بواسطة التغطية حيث يتم عمل العديد من العمليات المالية الكبيرة المتتالية والمعقدة بقنوات مالية مشروعة قانونا وذلك بهدف جعل ربط الاموال بمصادرها اكثرصعوبة.
ج/ مرحلة الدمج( integration )
يتم فيها دمج الاموال غير المشروعة في الاقتصاد وجعلها تظهر كاموال قانونية وكأرباح مشروعة من اعمال تجارية ويصعب معها التفريق بين الاموال القانونية والاموال غير القانونية.
ويستعين المجرمون الغاسلون لانجاز هذه العمليات المالية الفنية بخبراء ماليين وقانونيين وتسويقيين علي قدر عال من الكفاءةوتدفع لهم اتعاب ضخمة، وبقراءة مستقبلية سنجد ان معظم اقتصاديات الدول ومشاريعها التنموية والعلمية والثقافية وحتي انديتها الرياضية وصولا لاجهزتها السياسية للارتباط الوثيق بين الاقتصاد والسياسية ستقع في ايدي عصابات المافيا ومنظمات غسيل الاموال وتجار المخدرات اذا لم تكافح هذه الجريمة بصرامة ودقة وبتعاون دول العالم فيما بينها وضرورة اجراء تغيير واسع في قوانينها ولوائحها المالية والاقتصادية لمقابلة امتداد هذه الجريمة الخطيرة، وفي هذا الصدد اعتبرت اي دولة لا تسن تشريعات لمكافحة غسل الاموال دولة مشبوهة ماليا ولا يتم التعامل مع مؤسساتها المالية من طرف دول العالم والمؤسسات النقدية الدولية.
اساليب وطرق غسيل الاموال:
لقد طورت وغيرت منظمات غسل الاموال اساليبها لتفادي جهود المكافحة في اطار ما يعرف بميكانيكية غسل الاموال وهي:
أ/ اسلوب التركيب:
حيث تقسم كمية كبيرة من النقد الي مبالغ اقل من عشرة الاف دولار وهو الحد الذي يجب ان يبلغ عنه في الولايات المتحدة الامريكية عند الايداع والتحويل.
ب/ اسلوب التواطؤ الداخلي الفردى او الجماعي داخل البنوك:
حيث يقوم موظفو البنوك بتسهيل قبول الايداعات الكبيرة بمعلومات خاطئة ويساعدون الغاسل علي عدم اكتشافه او يتستر البنك علي عمليات الايداع الكبيرة المشبوهة ولا يبلغ عنها او يقوم بتحذير المجرم الغاسل عند اجراء تحقيق مالي من قبل الجهات القانونية المختصة.
ج/ اسلوب التمثيل المخالف للحقيقة:
وهو عبارة عن اجراءات يكون الهدف منه اظهار الاموال المغسولة اومصدرها او غاسلها بغير مظهره الحقيقي عن طريق ما يعرف بالخلط حيث يتم خلط الاموال غير القانونية مع الاموال القانونية للشركة وبعد ذلك تظهرالاموال الاجمالية كعائد من نشاط الشركة او عن طريق (شركات الواجهة) حيث تستخدم شركة كواجهة للاموال المغسولة بخلط اموالها مع الاموال القذرة او تأسس فقط لاستخدامها في عمليات الغسيل او كشريكة لشركة اخري ويصبح بذلك تعقب الاموال القذرة صعبا جدا او تكون شركة الواجهة معفاة من الابلاغ عن الايداعات الكبيرة فيتم الايداع بواسطتها.
د/ اسلوب التحويل من بنك لاخر:
ويتم تحويل الاموال غير القانونية من بنك لاخر كاموال قانونية بمساعدة وتواطؤ جهات داخل البنك.
هـ/ شراء الموجودات والادوات النقدية:
وفي هذا الاسلوب يشتري الغاسلون موجودات ومنقولات مثل السيارات والطائرات والمعادن الثمينة والعقارات او الادوات النقدية مثل الشيكات المصرفية السياحية والادوات المالية بالاموال القذرة المتوفرة وتستعمل هذه الموجودات في انشطة اخري مشروعة بتحويلها الي اموال مشروعة.
و/ تهريب العملة:
ويتم هذا الاسلوب بنقل العملة النقدية من مكان لاخر وايداعها بالنظام الاقتصادي لدولة ما او اعادة تحويلها لنفس المكان المهربة منه باجراءات سليمة وذلك بغرض اعادة تدويرها في قنوات مالية قانونية.
الملامح الاساسية لقوانين مكافحة غسل الاموال
اول التشريعات الصادرة في هذا الصدد كانت في بريطانيا وهو قانون جرائم الاتجار في المخدرات لسنة 1986 والقانون الجنائي لسنة 1988 وقانون مكافحة الارهاب لسنة 1989 وبهذه القوانين يبلغ للاجهزة المختصة في المكافحة، وفي فرنسا هناك قانون 12 يوليو 1990 وانشئ بموجبه جهازان: جهاز مكافحة غسل الاموال (تراكفين) ويتبع لوزارة الاقتصاد والمالية، والجهاز المركزي لمكافحة الجرائم المالية ويتبع لوزارة الداخلية، اما في ايطاليا فهناك القانون رقم 55 لسنة 1990 ، وانضمت سويسرا الدولة المصرفية الاولي في العالم الي هذه الجهود فاصدرت في اول اغسطس 1990 المواد 305، 305 مكرر من قانون العقوبات، اما في الولايات المتحدة الامريكية فهناك القانون رقم 19.18 و 21 واللائحة النموذجية للدول الامريكية حول غسل الاموال ومصادرة الاصول الصادرة في 3/3/1992،.. والملامح الاساسية لهذه القوانين:
1 – مشاركة النظام المصرفي في التصدى لجرائم غسيل الاموال:
فرضت دول العالم قوانين ولوائح معينة للحيلولة دون استغلال النظام المصرفي في جرائم غسيل الاموال والزامه بالمشاركة في مواجهة هذه الجريمة وتوفير الحماية القانونية له وذلك بالاجراءات الاتية:
أ/ وجوبية الابلاغ عن العمليات المالية المشبوهة للاجهزة المختصة، وعدم التواطؤ ومساعدة الغاسلين او حتي تحذيرهم من وجود مراقبة او تحقيق مالي كما هو الحال في القانون الانجليزي وفي القانون السوداني .
ب/ حماية المؤسسات البنكية والمالية من المسؤولية الجنائية والمدنية عند الابلاغ حيث نصت الفقرة (3) من المادة الخامسة من معاهدة فيينا الدولية لسنة 1988 علي ضرورة اتاحة السجلات البنكية لاغراض المتابعة والمصادرة دون مساءلة والمادة (19) من اللائحة النموذجية لدول امريكا التي نصت علي عدم تشكيل سرية اعمال البنوك كعائق امام الالتزام بهذه اللائحة، وعلي هذا سارت التشريعات في فرنسا حيث نص في قانون 1989 علي عدم مقاضاة البنك او تحميله المسؤولية عن الاضرار المترتبة علي التأخير او تشويه السمعة عند الابلاغ في المادة 21 من القانون.
ج/ التحقق من هوية العملاء: الزمت تشريعات المكافحة المؤسسات المالية بتحديد الهوية الحقيقية للعميل باعمال مبدأ (أعرف عميلك) ولم يعد مسموحا بوجود اوراق بنكية اوسندات خزانة مجهولة الاسم لدي البنك
2 – وجوبية تطبيق احكام المصادرة عند توقيع العقوبة في جرائم غسيل الاموال:
اجمعت تشريعات مكافحة هذه الجريمة علي وجوبية مصادرة كل الاموال والممتلكات والوسائط المستخدمة في جرائم غسل الاموال وتجميدها وحجز العائدات منها لاغراض المصادرة وتحويل جزء كبير منها للاجهزة المختصة لدعمها في مكافحة جرائم غسل الاموال ولصالح الاجهزة الحكومية الاخري ولمكافحة الامراض المستعصية كما فعل المشرع السوداني مع عدم الاخلال بحقوق اغير الحسني النية في الممتلكات المصادرة.
3/ عدم التقيد بقواعد الاختصاص القضائي:
وفي هذا الصدد نصت المادة 3 من اللائحة النموذجية لدول امريكا علي عدم التقيد بقواعد الاختصاص القضائي المكاني بجواز المحاكمة بواسطة محكمة مختصة بصرف النظر عن وقوع الجريمة في نطاق اختصاصها المكاني ام لا وذلك مع عدم الاخلال بالتزام تسليم المجرمين من حيث واجب التطبيق وفقا للقانون، ولم يأخذ بهذا المشرع السوداني
4/ فرض التعاون بين المؤسسات المالية والسلطات القضائية والجهات المختصة في مكافحة غسيل الاموال:
ويتمثل ذلك في حرص التشريعات ومن بينها التوجيه الاوروبي الصادر من المجلس الاقتصادي الاوروبى الصادر 1991 والنافد منذ 1993 علي إلزام هذه الجهات علي التعاون فيما بينها لمكافحة هذه الجريمة وعلي هذا اهتدت معظم التشريعات الاوروبية والدولية.
وبهذا نكون قد استعرضنا هذه الجريمة الخطيرة والجهود المبذولة لمكافحتها في جوانبها المختلفة الثابت منها والمتغير ونسأل الله ان يجنب بلادنا
شرورها وابعادها السالبة جدا علي مستقبل الاستقرار الاقتصادي والسياسي وعلي التنمية بها.
والله الموفق.
اسماعيل معروف
المحامي
صحيفة التخرير