السودانيون الذين عاشوا الحياة قبل أن يهبط علينا الجراد الصحراوي يتحدثون دوماً عن الزمن الجميل، وهو بالفعل كذلك. ولا أظنهم يعنون بساطة الحياة وحدها، وإنما يقصدون القيم والمثل والأخلاق التي كانت تجمع بينهم وجعلت للحياة معنى، يأسى المرء ويحزن على اندثارها، وذلك ليس من باب الحنين إلى الماضي (النستولوجيا) واستدرار العواطف، ولكنها الواقعية الممزوجة بالألم الذي يقطع نياط القلوب. لم نكن ملائكة ولكننا قطعاً كنا أنصاف أنبياء ننشد الكمال والذي هو لله وحده. لم نكن شياطين كما صورنا أزلام الإسلامويين، ولكننا كنا على الأقل (أولاد ناس). لدينا أخلاق لو قُسِّمت على البشرية كلها لما فرطَّنا فيها من شيء!
كنا متصالحين مع أنفسنا، نعرف قدرها دون تنطُع وندرك مقامها دون تكبُر. كنا نعبد الله مخلصين له الدِين بلا تطفيف، ونمشي بين الناس في كبرياء كأننا شعب الله المُختار. يقف مسلمونا ومسيحيونا وآخرون لا ندري ما دينهم كالبنيان المرصوص يشُد بعضه بعضا. متجردون دون ادَّعاءٍ يزعم أن الله – سبحانه وتعالى – أرسلنا لنخرج الناس من الظلمات إلى النور. إذا اختصم فينا اثنان، طلب منهما ثالث قبل فض النزاع أن (يصلُوا على النبي الكريم). وهنيهةً تصفو النفوس وتهدأ الخواطر ويقبِل بعضهم على بعضٍ يتلاومون!
كنا مثل سائر عباد الرحمن نبحث عن رزقنا في رواسي الأرض وفجاجها. وبقناعة نقتسم الرزق مع المحتاجين والمساكين بل حتى المؤلفة قلوبهم، بلا منٍ أو أذىً وبعيداً عن فلاشات الكاميرات وأصوات الميكرفونات وأهازيج (قيقم). لم يكن للفساد موطئ قدم بيننا. وغاية ما يمكن أن يحدث بهذا الفعل المنبوذ اجتماعياً، أن يقدم (محاسباً) بسيطاً أجبرته الحاجة أن يمد يده ويختلس بضع جنيهات يقمن صُلبه، وعندما ينكشف أمره يتوارى خجلاً من الناس، إن لم يواريه الموت الزُّؤام. لكن أصحاب الأيادي المتوضئة والأفواه المتضمضة رأيناهم يجعلون للفساد ألواناً زاهية تُغري الفاسدين. بل حتى (الكيف) لم يكتف بدخول (قصر غردون) شاهراً (سيجارته) ولكنه تبوأ منصباً قيادياً في الحركة الإسلامية لكي يقيم أركان الدِين!
كنا نعيش حياتنا بحُلوها ومُرها وعندما داهمنا بنو قريظة في ذلك الليل البهيم، قالوا لنا نريد إعادة صياغتكم. فقلنا لهم ولكنكم لستم من خلقنا فسوانا فعدلنا. فبهت الذي كفر واستغربوا كيف نجرؤ على ذلك القول الصاعق وهم يدَّعُون أن بمقدورهم أن يحيونا ويميتونا. ثمَّ ظنوا أنهم المعنيون بقوله تعالى: (الذين إن مكَّناهم في الأرض…الآية). فكان ذلك مدعاة لعقاب جماعي. إذ قُطِعت الأرزاق، وشاع الفقر، وبعضهن أكلن من أثدائهن، وتبعثر الناس في كل وادٍ يهيمون، ثمَّ هاجر من استطاع سبيلاً، يبتغون حماية من (الكُفَّار) ورزقاً يقيم الأود. أما الوطن نفسه فقد تحوَّل لقطعة من جحيم، نقصٌ في الأنفس والثمرات والطمأنينة، وأخيراً وصم مُواطنوه بالإرهاب الذي لا يعرفون له ذِكراً!
لجأت العصبة ذوو البأس لقراءة الفصل الثاني من كتاب التاريخ حتى يتمكنوا من السلطة بالبطش والقهر والاستبداد، فكانت فصول الدولتين الأموية والعباسية حاضرةً. فأشعلوا الحروب في جهات الوطن الأربع، أما الخامسة الوسطى فقد شاء الأبالسة مزج القتل فيها بالمناسبات الدينية حتى يكون أشد وطئاً وأقوم قيلاً. فالمعروف أن العيدين الأكبر والأصغر وثالثهما رمضان، مناسبات لها خصوصية في المجتمع السوداني إلى جانب بُعدها الديني. فجاءت أعظم جرائرهم انتهاكاً لتلك المناسبات التي تصفو فيها القلوب، وتشاع فيها المحبة، وتصبح السعادة متكأ للأهل والأصدقاء. لكن تلك المناسبات في ظلَّ حكم الأبالسة غدت بين غمضة عين وانتباهتها كابوساً يجلب الحزن والغم والكدر للنفوس!
• في الثامن والعشرين من رمضان الموافق العام 1990م وقبل يوم من عيد الفطر، رأت العُصبة المُجرمة أن طريقها نحو حكم عضوض لن يتأتى إلا بجز الرؤوس. فأعدموا ثمانية وعشرين ضابطاً رمياً بالرصاص بمحاكمة صورية في أقل من ساعتين، وقبروهم في حفرة واحدة وبعضهم أحياء لم تطلع أرواحهم لبارئها. وكان ذلك تماثلاً مع ما حدث في دولة بني أمية باعتبارها مثلاً يحتذى. فبعد أن وليَّ الحجاج بن يوسف الثقفي على العراق، قام بقتل كلاً من لم يرحب بولايته، وبعد أن قضى وطره من شهوة الدم أمر بإعداد وليمة ضخمة. كما أمر بجلب حصائر لتُفرش فوق الجثث ووضِع فيها الطعام. ودعا بعض معارضيه للجلوس فوق تلك الجثث ومباشرة الأكل، فكانوا يأكلون بينما بعض القتلى يئنون وأرواحهم تكركر كركرة الموت!
• في العام 1998م وقبل عيد الأضحية بيومين، وجَّه كمال حسن أحمد قناصته لاصطياد شباب يفع في معسكر العيلفون للخدمة (الوطنية) وكانت جريرتهم أنهم طلبوا قضاء عيد الأضحية مع ذويهم، فقدرت الطغمة الحاكمة ممثلة في المذكور أن تلك تهمة تستحق القتل. ومن ثمَّ قبروهم في حفر جماعية متناثرة، ظناً منهم أن ذلك يمكن أن يطمس معالم الجريمة. غير أنها كُشف عنها النقاب بعد سقوط النظام. وتلك خطىً سار بها من قبل الخليفة الأموي العاشر هشام بن عبد الملك، الذي أرسل إلى خالد القسري والي العراق يأمره بقتل الجعد بن درهم لقوله إن القرآن مخلوق. فحبسه ولم يقتله، فبلغ الخليفة الخبر فأرسل مجدداً للقسري يلومه على عدم تنفيذ الأمر، ويعزم عليه أن يقتله. فامتثل للأمر وأخرجه من الحبس مشدود الوثاق قرب المنبر. وبعد ما صلى القسري صلاة عيد الأضحية، قال في ختام خطبته: عباد الله انصرفوا وضحَّوا تقبل الله منكم فإني مضحٍ اليوم بالجعد بن درهم. ثمَّ نزل من المنبر وذبحه ذبح الشاة!
• في اليوم الأخير الموافق التاسع والعشرين من رمضان العام 2019م (يتزامن مع نشر هذا المقال) تمت أبشع جريمة في تاريخ الديكتاتوريات السودانية، إذ جلب الأباليس جنوداً شتى يعرفهم الناس بسيماهم. وكانوا مدججين بالعتاد الذي يزهق الأرواح دون عناء. وبدأوا في حصد أرواح المعتصمين الذين كان سلاحهم الوحيد هتافات تشق عنان السماء. وعُرفت تلك الواقعة النكراء في التاريخ السوداني الحديث باسم (معركة القيادة العامة). سقط فيها المئات مضرجين في دمائهم وجُرح فيها الآلاف واغتصبت فتيات وما تزال الدهشة الخرساء سيدة الموقف!
• أما في سنة 60 هجرية خلع أهل المدينة بيعة يزيد بن معاوية (لما عُرف عنه من فسق). فأرسل جيشاً بقيادة مُسلم بن عقبة لقتالهم وهزمهم في موقعة الحرّة الشهيرة. ثمَّ أصدر القائد مُسلم أمراً لجيش المسلمين باستباحة مدينة النبي الكريم لثلاث أيام حسوماً نزولاً عند أمر الخليفة. فأبيحت خلالها دماء وهُتكت أعراض مسلمين. وقد قتل في تلك الأيام المعدودات ما يفوق الأربعة آلاف من المسلمين، وفُضت بُكارة أكثر من ألف فتاة!
ختاماً يا أيها الضالون ثمة سؤال يؤرقني: العيد حامل أوزاركم آت بعد يومين مما تعدون: ماذا تقول سرائركم عندما تتمددون في سُرركم في السجن العتيق، وعيونكم تكاد تثقب سقف الزنزانة؟ أما نحن فقد قلنا مراراً وتكراراً: إن (الإخوان رِجسٌ من عمل الشيطان ينبغي اجتنابه)!.
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!!
فتحي الضو
صحيفة التحريز