تقول السيرة المُضَمَّنة في موقعه على الإنترنت، إنه كان “يقوم بتقليد كبار فناني الغناء في ذلك الوقت بين مجموعة صغيرة من زملائه، وأصدقائه. وبحلول أوائل الستينيات عرف أهل السودان الكابلي كنجم غنائي يكتب الشعر، ويبذل الألحان، ويختار الجياد من صور الشعر. وفي نفس تلك الفترة أظهر اهتماماً عميقاً بالتراث الشعبي السوداني بصفة عامة، وبالغناء الشعبي في مناطق السودان التي تأثَّرت باللغة العربية بصفة خاصة، وكم تمنى لو أنه عرف أكثرية لُغات أهل السودان”.
ويقول الكابلي في حوار أُجْري معه بصحيفة (الشرق الأوسط) إن “نشأته من جذورٍ لعائلة أبيه تعود إلى مدينة كابل الأفغانية، ومن جذورٍ تعود إلى جبل مرة في دارفور لعائلة أمه”.
وقال الكابلي للصحيفة، إن جينات والدته تنحدر من فرع من قبيلة الفور وهم (الكنجارة)، وأنه وُلِد في الشرق، وعاش ردحاً من الزمان في الشمال، ثم انتقل للعاصمة. ويرى أن هذا المزيج منحه الفرصة للاهتمام بالتراث السوداني، ومحاولة تمثله في مشروعه الفني الذي تجاوز نصف قرن ونيفاً.
ويقول الناقد الراحل عبد الهادي الصديق: إن بداية الكابلي الغنائية “تفتحت أول مرة عبر مسالك الأناشيد المدرسية، وهو لا زال يعزف على آلة الصفارة، وأدى تشجيع أستاذه ضرار صالح ضرار إلى نيله جائزة في إلقاء الشعر وهو يلقي رائعة صفي الدين بن الحلي.. (سل الرماح العوالي عن معالينا).. وانتقل من المدرسة المتوسطة إلى الثانوية الصغرى بأم درمان. وهو يجيد العزف على آلة العود، وقد أكمل قراءة طه حسين والمنفلوطي وما إليهما، ولكنه لم يشبع فأخذ يدندن بأشعار المتنبئ. وفي أم درمان دخل ندوة عبد الله حامد الأمين فانتقى منها عقداً منضداً من عيون الشعر السوداني”.
أمّا كابلي نفسه، فيقول لصحيفة الخليج: “بدايتي كانت موهبة فِطْرِية، وعشقاً للفن في شتى صوره، وللغناء بوجه خاص، وظلَّت البداية تنمو وتتشكل حتى تأسست شخصيتي… صحيح أنني لم أكُنْ على وعي بمكنون هذه الشخصية، ولكن بكثير من الصبر، والمثابرة، استطعت التوصل إليها، وهي شخصية تستلهم القديم، ولا تقلده، وتستشرف الحديث دون أن تفقد هويتها وأصالتها”.
ويضيف: شأني كمعظم المخضرمين، لم أجد طريقي مفروشاً بالياسمين إنَّما اصطدمت بعقبات جَمَّة، من أهمها أن المجتمع لم يكن ينظر إلى الفن باحترام، وكان الفنان يحتل مرتبة متدنية من السلم الاجتماعي، غير أن هذا الأمر قد تغير في ما بعد”.
ويتفق الموسيقيون أن الفنان عبد الكريم الكابلي يمتلك واحداً من أجمل الأصوات الغنائية التي أنجبتها بلادنا. ولا يمكن التأريخ لمسار الأغنية السودانية دون إفراد حيز كبير للدور الذي لعبه الكابلي في تجديد أصول الغناء، والتفريع لأنواعه. ليس ذلك فحسب، فالمجهود الفني للكابلي يتوازى مع دوره الكبير كمبدع مثابر حمل بعض أحلام اجتماعية، وسياسية، لأجيال عديدة، وعبر عنها من خلال مشروعه الغنائي الذي قام على أعمدة من المعارف العامة، والموسيقية على وجه التحديد. كما يشير بعض الموسيقيين إلى أن الأسلوب السهل الممتنع الذي عرف به الكابلي في التلحين يتناسب مع طبيعة تعامله السهل مع واقعه الحياتي، وتواضعه الإنساني الجَم، ورهافة إحساسه.
الواضح أن الكابلي لم يلجأ لحشو لَحْنه بالمقدمات الموسيقية الكثيفة حتى يعطي المتلقي انطباعاً بتصنيع مفرداته الموسيقية، كما كان هذا الأسلوب هو دأب كثير من الملحنين الجدد، والذين تغيب السلاسة في موازيرهم وجملهم الموسيقية بدعوى التحديث للميلودية السودانية الواضحة والسلسلة في تموجاتها النغمية، صعوداً، وهبوطاً.
وإلى ذلك يقول الأستاذ السر أحمد قدور “إن للكابلي دوراً كبيراً في إعادة القصيدة الفصحى إلى الغناء السوداني في فترة الستينيات الماضية وما بعدها. لو أراد أحد الدارسين لشعر الغناء السوداني وتطوره منذ نهاية الخمسينات الماضية وحتى الآن فإنه سيضع الشاعر عبد الكريم الكابلي مع شعراء المقدمة في هذه الفترة. لا لأن الكابلي كتب أغنيات تغنى بها هو وتغنى بها سواه، ولكن لأن الكابلي الشاعر صاحب أسلوب خاص في التناول. وإذا كان بعض المطربين قد سبقوه في كتابة أغنيات لأنفسهم مثل الكاشف عندما ألف لنفسه أغنية (الحبيب) والعاقب محمد حسن عندما كتب (العودة لمتين) وغيرهما، فكانت محاولاتهم مجرد حالات متفرقة ونادرة، فالأمر عند الكابلي يختلف تمام الاختلاف، فهو منذ البداية أراد أن يعبر عن نفسه بأسلوب آخر. وحتى عندما تغنى بشعر الآخرين فهو يبحث عن هذا الأسلوب الآخر. وهو صاحب تعبير متفرد وجديد”.
وإذا جاز التأمل في النصوص التي غناها الكابلي فإنها تنوعت برغم أن خيطاً وجدانياً واحداً يربط بينها. فالكابلي كتب وغنى شعر: الأغنية التقليدية و”المسادير” والتراث، الشعر العربي القديم والحداثة، شعر سوداني فصيح وشعر المديح. ولعل كل هذه النماذج التي عمق بها الكابلي مشروعه الغنائي تولدت من بيئة شعر الغناء السوداني إجمالاً. ولا شك أن هناك إهمالاً في تصنيف وحصر هذه النماذج الشعرية. ولا ندري إلى أي مدى يمكن أن يساعدنا باحث حريص على تاريخ الغناء لأداء دور التصنيف والأرْشَفة في زمن التوثيق الرقمي السهل الإنجاز.
والحقيقة الثانية هي أن هذا الكم الشامل من المواضيع التي شدا بها الكابلي تتنوع لترصد التطور الشعري لمبدعينا في هذا المجال. وهذا التنوع نفسه يرتبط بتنوع قضايا الغناء السوداني تاريخياً. ولئن كان مبدعنا قد غنى لتمدد قيم الحرية، والسلام، والحب، والكرم، والشهامة، والمروءة، وجمال البيئة، والوجوه، والعيون، إلخ، فما أحوجنا إلى سَفَرٍ مُحْكَم لإبانة كل هذه القيم بمفردها من خلال علاقتها بحراك المجتمع. وكذا للوقوف على قدرة شعراء الأغنية على التعبير عن همومهم الوجودية، والنفسية، والوطنية.
وهنا يقول د. نور الدين ساتي، ممثل السودان السابق في اليونسكو، “إن صيت الكابلي، وأثره، لم يكنا محدودين للسودان وحده. ففي جولاته الخارجية حول العالم حمل معه رسالة السلام، والمحبة لكل الإنسانية، وكان من التقدير الآجل أن عينته الأمم المتحدة سفيرا للنوايا الحسنة. وكنت قد عثرت على فرصة لأكون شاهداً على مساهمة الكابلي الكبيرة لتطوير ثقافة السلام على مستوى أفريقيا، والعالم على مستوى أشمل. فقد زارنا الكابلي في باريس عام 1994 حينما كنت سفير السودان في فرنسا، وممثله في اليونسكو. نظمنا له محاضرة شهدها عدد كبير من السفراء، والممثلون الدائمون في اليونسكو والتي كانت عن الموسيقى والتراث السوداني. كان برفقته الراحل محمدية، وهو أفضل عازف للكمان. قدم الكابلي ومحمدية مقاطع من الغناء، والموسيقى، السودانية في تلك الأمسية التي أذهلا فيها أعضاء من سكرتارية اليونيسكو المسؤولين عن التراث الموسيقي الذين حضروا تلك المحاضرة. فقد أبان لهم الكابلي معرفته الواسعة، ومواهبة التواصلية، والتي دعتهم لتوجيه الدعوة إليه للمشاركة في مؤتمر إقليمي عن التراث الموسيقي عُقد في نيامي، عاصمة النيجر. وقد شارك الكابلي في ذلك المؤتمر، وقدم مساهمة كبيرة ونوعية، وفقا لرسالة وصلتني من “شيكليك ومدام إيكا” اللذين نظما زيارته لنيامي..”.
إن روح الشاعرية التي تقمصت المبدع الكابلي منذ بدء علاقته بالإبداع، وتوازت مع جمالِ صوته ذي الإمكانات الهائلة ساعدته في تخيّر الأشعار الجيدة التي غناها للشعراء. ولقد أشاد الموسيقار يوسف الموصلي بهذا الصوت، وقال: “أنا أحب صوت الكابلي جداً، خصوصاً عندما يتجه إلى القرار ـ المنطقة الغليظة ـ في صوته، وتمنيت لو أن الله منحني هذه الإمكانية في صوته، وهو من أمْيَز مطربينا في منطقة القرار”.
وربما لعب هذا الاختيار للشعر، من جانب الكابلي، دوراً ثقافياً في تنمية ذوق المتلقي فنياً ومعرفياً، لكونه اختار من عيون الشعر العربي القديم وشعر الحداثة، والمسادير، وعَرَّف بالعديد من النصوص التي ظلت مهملة، ما كان لها أن تُعْرَف وتؤرَّخ لولا أنه عالجها بألحانه الجميلة.
وباعتبار أن كل قصيدة عند الكابلي كانت تخضع لمنهج تلحين يتناسب معها، فقد توفق الكابلي إلى حد كبير في كساء القصيدة بالإيقاعات والموتيفات المناسبة للمعاني الداخلية للقصيدة. وصار من السهل تميز أسلوب التلحين من خلال المقدمات واللزمات الموسيقية.
يقول الأديب والسفير الراحل عبد الهادي الصديق: “إن الكابلي يحبه أهل السودان لأنه عاد بهم غائصاً في عمق التراث الشعبي والقومي.. تراث بنونة وشغبة وبت مسيمس، ولم يقدم ذلك مغنياً وكفى، بل قدم المحاضرة تلو المحاضرة، والندوة تلو الأخرى في دُور الثقافة والمنتديات محلياً وعربياً وأجنبياً”.
ويضيف الصديق: “إن مكان الكابلي في حركة الثقافة السودانية كبير ومتسع، كاتباً، ومؤلفاً موسيقياً، ومغنياً، ووطنياً محباً لبلاده كما أحبها خليل فرح وهو يصدح كما الكابلي من بعده”.
والحقيقة التي لا جدال حولها أن الأستاذ عبد الكريم الكابلي ظل لنصف قرن ناشطاً ثقافياً، وفنياً واجتماعياً، وأدبياً، ودبلوماسياً. أدواته القلم، والقيثارة، والصوت الطروب، والتعبير الحسن للأفكار التي آمن بها، وظل بلا كلل أو ملل عاكفاً على نشرها في ربوع بلاده، وأينما حل خارجها.
ومهما كان جهده الأبرز طيلة هذه الفترة قد تمثل كمغنٍ ما برح يشنف الآذان برقة أشعاره وصواب حنجرته في ضخ اللحن الشفيف، فإن أدواره الأخرى في الحياة التي عشق تنميتها بالأفعال النيرة، تظل مراقبةً عن كثب في الصوالين الأدبية، والمؤتمرات، والمنتديات الثقافية المحلية، والإقليمية، والعالمية. وكذلك في الجامعات ودور الفن، وفي منابر النشر التي زَفَّت إنتاجه الأدبي والمعرفي. وفي الأجهزة الإعلامية التي أجرت معه مئات المقابلات حول ما تعلق بإبداعه، واهتماماته المعرفية التي نذر عمره لها. كل هذا الرصيد الذي نماه منذ منتصف القرن الماضي شكل موئلاً ثقافياً، ما أقل من أن يجد التأريخ، ليس فقط تكريماً له، وإنما أيضاً لأجل الاستلهام منه، ومعرفة الأسرار التي قادته لأن يواصل طوال هذه المدة في هذ النشاط المجتمعي، غارساً مفردات الوحدة، والحب، والسلام، والجمال، في طول وعرض بلاده التي جاب نواحيها، وأخلص لها.
وفي هذا الإطار يقول الأستاذ طلحة جبريل: “إن الكابلي كان وما يزال نموذجاً للفنان المثقف، وأتذكر حديثاً بيني وبين الفنان المغربي عبد الوهاب الدكالي، قلت له إن لدينا فناناً مثقفاً لا مثيل له في العالم العربي، وحين سمع الدكالي ثلاثاً من أغاني كابلي، وهي (أراك عصي الدمع) التي لحنها قبل أم كلثوم، وقصيدة ليزيد بن معاوية (نالت على يدها ما لم تنله يدي) وأغنية (أجمل من لؤلؤة بَضَّة صيدت من شط البحرين)، قال الدكالي: بالفعل هذا فنان مثقف، واستثنائي”.
وبالفعل نسبة لدوره كمثقف تم اختيار الكابلي سفيراً بصندوق السكان التابع للأمم المتحدة (UNFPA) لمساعدة المنظمة على محاربة ختان الإناث، الزواج المبكر، والناسور البولي، حيث إن إحصاءات مكتب الأمم المتحدة لصندوق السكان أكدت أن نسبة عالية من الفتيات اللائي تزوجن في سن مبكره، أو تعرضن للختان يتوفين أثناء الولادة.
ويضيف جبريل: “الكابلي فنان موسوعي، وهو الفنان السوداني الوحيد الذي ربطتني به علاقة شخصية، وسعدت بتقديمه في زيارة له لأمريكا في محاضرة حول أغاني التراث، وكان ممتعاً ومفيداً كدأبه”.
وإذا كان لا مناص من رصد جماليات تجارب المبدع عبد الكريم الكابلي في جوانبها المعرفية، فإن الضرورة تقتضي أن تتعدد المحاولات، وتتنوع المناهج للغوص فيها، خصوصاً أن تقييم الإبداع والتأريخ له ينبغي ألا يقتصر على جهد فرد واحد. وما أحوجنا إلى ورش عمل متعددة لتناول الحياة الخصيبة لمبدعنا لأجل أن تتنوع خلفيات النظر، والتقييم إليه، تعديداً لمناهج النقد حوله، وإغناءً للحوار حول إبداعه. وذلك ما يثري التأريخ الفني في بلادنا، ويتيح للمتلقين أنماطاً من التفكير حول المبدع الشامل.
لقد تميز الكابلي بالوفاء لأصدقائه وأساتذته، ويقول الأستاذ معاوية حسن يسن، الصحافي والناقد المعروف: “الوفاء من خصال الأخ الأستاذ عبد الكريم عبد العزيز الكابلي التي لا يعرفها كثيرون. فهو وفِيٌّ للغاية لأصدقائه. وهي خصلة حميدة تضاف إلى شمائله التي جعلت منه فناناً، وشاعراً عبقرياً. ولئن كتب في صحائف تاريخه ما قام به في سبيل توثيق وإشاعة الغناء التراثي والشعر الشعبي، وتوفيره اللحمة اللازمة لربط أجيال من السودانيين بكلمتهم العامية التي كادت المدنية أن تطمرها، وأسقط من تلك الصحائف كسبه في صنع الغناء المعاصر، وشعره الغنائي الثر، وقصائده الفصيحة الحسنة، لكفاه”.
ويشير يسن إلى “أن من وفاء الكابلي لأصدقائه وأحبابه، وهم كثر، في كل مكان في السودان وخارج السودان، أنه ما إن يأتي عيد الفطر أو الأضحية إلا وبادر بإرسال بطاقة معايدة. ولا يذهب إلى عاصمة يفتتن بها، خصوصاً في أوروبا الغربية، إلا وتذكر أصدقاءه وبعث إليهم منها بطاقات للتحية والذكرى. ولعل السودانيين قاطبة عرفوا وفاء الكابلي أخيراً حين أصدر الشريط الصوتي الأول في سلسلة (أمير العود)، الذي يتغنى فيه بست من درر مطربنا الكبير الراحل النقيب حسن عطية، أو (وحائده) كما تعود، عليه رحمة الله، أن يقول. وليس من شك في أن حسن عطية أستاذ للكابلي. فقد افتتن الكابلي بصوته وأغنياته منذ أن التقطتها أذناه من على أثير الإذاعة السودانية، وهو بعدُ صبي صغير في القضارف وبورتسودان. وحين بدأ الكابلي حياته الفنية، كان مؤدياً لأغنيات حسن عطية والتاج مصطفى وعبد الدافع عثمان وأحمد المصطفى. ومع أنه أدرك هؤلاء الرواد وصار علماً في دنيا الغناء مثلهم، إلا أنه ظل يتعامل معهم مثلما يتعامل التلميذ مع أستاذه”.
يشير البعض إلى غياب النقد الموسيقي، برغم أهميته في تطوير الأساليب الفنية للمشتغلين في التأليف الغنائي، وإبانة مواضعها وسط تيارات التحديث الغنائي، وشحذ ذهن المتلقي بالمعارف الموسيقية، فإن ذلك الغياب هو غياب من يتخصصون فيه كعِلم قائم بذاته، يتراكم بتراكم فصوله. سوى أن ما يكفي اجتهاد الكابلي في هذا الضرب من الإبداع أنه أصبح يأخذ ملامح مدرسية غنائية من خلالها يستطيع أن يستخرج النقاد منهجاً لمؤلفاته الغنائية، وبه يجوز مقاربته مع مناهج لمبدعين سبقوه في التأليف الغنائي، وكذلك الذين جايلوه أو أتوا بعده.
إذن فإن أمر الاستناد على منهجية موسيقية قبلية لتحليل، ونقد، التجارب اللحنية التي ظل الأستاذ عبد الكريم الكابلي ينميها بذوقه الرفيع منذ الخمسينيات، ستتعثر في فهمه كثيراً من حيث الخلاصات التي قد تتوصل إليها. وربما لا يتعلق هذا الأمر بالكابلي فقط.
كثير من المشاريع الغنائية لفنانينا أفرزت مناهج في التأليف الغنائي، تتنوع بتنوع الخلفيات الاجتماعية، والفكرية، والثقافية، والجيلية، التي انبجست من خلالها. ولهذا كله لا بد من اختيار منهج النقد من داخل هذه الإبداعيات، أي بأن يتم نقدها، أو تحليلها من خلال معرفة تامة بأسلوب هذا الفنان أو ذاك. فمثلاً لا يمكن القول إن تجربة الفنان محمد الأمين والتي نمّاها، وعكف على تطويرها، والتعريف بها طوال هذه السنين، تشابه ما لشرحبيل أحمد من مشروع غنائي، وعلى هذا النسق سنجد أن أغنية الجابري تختلف عن عبد القادر سالم، وأن غناء صديق أحمد يختلف عن غناء أبو عركي البخيت.
وبرغم أن الخيط الذي يجمع كل هؤلاء المبدعين هو الأغنية السودانية، إلَّا أن لكل مغنٍ خصوصيته في ضخ الكلمة، واللحن، والصوت، والأداء، والمعالجة الموسيقية، ما يؤكد ضرورة فهم تجاربهم الغنائية عبر مختلف مناهج النقد الموسيقي. والحقيقة المُرَّة هي أن هذا الغياب في النقد الموسيقي المتخصص، إضافة إلى فشل مؤسساتنا التعليمية في استنباط مناهج تأليف من خلال تصنيف أساليب المؤلفين للأغنية ــ تساعد من ثَمَّ في تدريس طلبة العلم الموسيقي ــ حَرَم أجيالنا الحالية من معرفة مصادر غنائنا، وإن كان أعظم تكريم للفنان هو أن تصبح تجربته مقرراً لتدريس الباحثين عن التحصيل الأكاديمي الموسيقي، فإن جيل الكابلي لم يحظ بالتكريم اللائق به، والمتمثل في حفظ تراثه الموسيقي من خلال هذه المناهجية الموسيقية التي ينبغي أن تبْقي عليه.
لتكن عودة الكابلي لبلاده فأل خير بأن تعود كل الرموز الإبداعية، والعلمية، والاجتماعية، لتبني وطن المستقبل، ونتمنى أن يكون تكريم مؤسسة “دال” للكابلي تكريما لأهل الفن الذين ظلوا لقرن كامل من الزمان يحلمون بأن يصنعوا وطنا للحب، والخير، والجمال.
تبقى القول، في مقالٍ عن كابلي وآخرين تركوا بصماتهم في المجتمع السوداني، كتب الصديق د. عصام محجوب الماحي في مارس 2018 مقالاً بعنوان: “أسماء لها إيقاع.. السفير عصام حسن، عبد الكريم الكابلي، د. خليل عثمان والشريف حسين الهندي”، وختمه بالفقرة التالية:
“كم أنت رائع يا كابلي، وكم أنت مُبْدِع.. طِبْتَ وطاب لك مقامك أيْنَما كنت، وطاب يومك وغدك وكل العُمْرِ فقد منحته لنا وجعلت حياتنا يا حبيب العمر تتجدد مع أشعارك والكلمات التي غنيتها، ومع أنغامك وألحانك، ومع الأروع الذي أصبح محفوراً عميقاً في الروح والذاكرة، صوتك المتميز المميز فريد عصره وزمانه وكل الأزمنة يا سليم الزوق والنفس ويا حَسن الطَوِيّة. وكما قال من قبل إيليا أبو ماضي “كُنْ جميلاً ترى الوجود جميلا”، فإنني أقول بألسنتنا على لسانك “كن سَوِيَّا ترى الناس أسْوِياء”. ياااااه.. كم نحن جميعاً نحتاج لإعادة قراءة لحياتنا والغوص فيها واستخلاص الجميل منها وجعله بطاقة تعريف وتعارف بيننا، وسبيل تعايش وتعافي وتواصل وتداخل وبكلمة جامعة حُب، فما خُلِقْنا إلَّا للحب، ومن حُب الرب للبشرية انه أبدع في خلقها وتنوعها، وفي حُبنا لبعضنا عبادة. فكُن عبداً مُحِباً كما أحَبّ كابلي الناس وعاش لهم، فمن أحَبه الله منحه من قدرته موهبة للخلق والإبداع وجعل الناس يحبونه. أي نعم كابلي، أحَبك الله فأحببتنا وحبيناك من قلوبنا يا حلو.”.
وقبل ذلك المقال بأشهرٍ، أي في 3 أغسطس 2017، كان د. عصام محجوب قد كتب مقالاً عن كابلي بعنوان: “منو الزي ريدي بيك مكتول: عبد الكريم الكابلي.. طبت وطابت أيامك وكل العمر”.
وأخيرا لا أجد أفضل ما أختم به مقالي هذا، إلّا بما ختم به عصام مقاله ذاك، وأجدد القول لكابلي: “طِبْت وطاب صباحك ومساءك ونهارك وكل وقتك والعمر بأكمله أن شاء الله يا حبيبنا الفنان المبدع عبد الكريم الكابلي.”.
صلاح شعيب
صحيفة الجريدة