لفيف من السودانيين تنادوا بإحدى حدائق تورنتو في العام 2006 ليشهدوا منافع لهم (في الدار الآخرة).
الدعوة نظمتها جمعية دفن الموتى، وهي جمعية سودانية تكوّنت، مهمتها جمع المال والتبرعات لإنفاقها على الموتى من السودانيين نقلاً بالتوابيت على ظهور الطائرات أو شراء القبر للمسلم الذي يتراوح بين 3 إلى 5 آلاف دولار كندي! انتبه (أخوان البنية) لهذا الأمر بعد وفاة فجائية لأحد السودانيين المقيمين في هذا المنفى ولما كان – من مثل بين يدي الله – معدماً إلا من سودانيته وفقيراً بالعدم الماحق إلا من المساعدات التي تقدمها حكومة كندا لم يستطع – عليه رحمة الله – توفير اللازم لشراء قبره أثناء شقائه في الدنيا، فلزم ذلك جهداً قام به نفرٌ كرامٌ توّجوه بجمع ما يساوي ثمن المقبرة التي يسكنها المرحوم الآن عزيزاً مستوراً.
دفن الموتى هنا تجارة لها ريع تذهب ضرائبه للدولة. وهو علمٌ يدرس في الكليات الجامعية وتمنح البلديات التصاديق الحكومية لمزاولة هذه المهنة بعد استيفاء الشروط اللازمة من تأهيل علمي وقُدرة مالية وخلو من السجلات الجنائية – إضافةً إلى المكان الصحي اللائق لإعداد الجنائز، وعلى المرحوم في الدنيا توفير المال اللازم لمقابلة هذا الإجراء النهائي في حياته كآخر مُعاملة مالية له في الدنيا الفانية، وميزة هذه التجارة (شركات دفن الموتى) أنها النشاط التجاري الوليد الذي لا يقبل الأقساط بحكم انتقاله من وسط يضج بالحياة إلى عالم يسربله الصمت الأبدي ولا مجال للقضاء لاسترداد مستحقات الشركة لمن مضى لعالم تسهل الشركة الالتحاق به في ظل معرفتها بطبيعته بما يمد طبيعتها الرأسمالية بالحرص على تسديد نفقاته في الحياة قبل الانتقال، انظر عزيزي القاريء بشاعة الرأسمالية وتأمل نياط قلبها المعدني المصنوع من حديد صك العملة!!.
في هذا الجو المُخيف المتصل مباشرة بملكوت الآخرة والراثي مصيرنا المجهول. وأرواحنا اليابسة أخرج لي أحد الأصدقاء قصيدة نقلتها (سودانايل) لهاشم صديق لم تكن الأجواء التي رسمتها القصيدة بأقل من تلك التي كنا نتحلّق حولها. أُصبت بارتعاشٍ وتنميلٍ وجفّ حلقي وأصبح البصاق كنزاً، وفُوجئت بأن كل الحضور اطلع على تلك القصيدة من (سودانايل) وصار الحديث منصباً حول القصيدة أعادتنا إليه عنوةً لأنّ (بطلة القصيدة) قابلت ذلك المصير ولم تكن مُستعدة له خرجت مشتاقة، وفارقت ملتاعة، جاءت عفوية وماتت حيرة اجترحت من أكوام لحمها الصقيل مسامات شفافة نضاحة بالوجد مثل العصافير والحمام خلافاً لطبيعتها الموصوفة بها ورغم ذلك كذبوها وعقروها.
التحق هاشم صديق بهذه القصيدة لقمة عالية من المجد الشعري المطبوع به، وجدّد خلاياه القلقة المبدعة الشاعرة وأمد قلمه بحبر مبدع له دعاش ونسائم وآفاق وامتدادات لم أَر في حياتي كلها قصيدة تم تداولها بمثل هذا الكم.
وتم حفظها بتلك السهولة، وهضمها بذلك اليسر واختلاطها بمجاري الدم والوطنية والأشواق.
من هذه المنزلة الشاهقة يبدأ هاشم مشواراً شعرياً جديداً أدواته الكلام العادي جداً – اللغة الشعبية اليومية – هموم الشارع بكل ما تفيض به من مُباشرتي وإسقاط يستفيد هاشم من قُدراته الدرامية الثرة لتوظيف الدراما في خدمة النص الشعري ليكتسب الشعر عظاماً أقوى وبنية مسرحية تجعله أقرب إلى مدرسة منطق التطابق (LOGIC OF SAME) المنتشرة الآن في أمريكا إن لم يكن يتفوق عليهم بتلك العفوية والرصانة والجزالة والقدرة على الإحاطة الشفافة.
الشاعر الذي تنتمي مواهبه لمعدن الذهب لا يصدأ ولا يُبلى ولا ينساه الناس، وكلما أنجز الشاعر مهام قصيدته في عمرٍ مُتقدِّمٍ، كلما جاءت القصيدة أكبر من العُمر بمراتٍ، فإذا قدر (للملحمة) أن تعيش بيننا منذ (الستينات) فهذه القصيدة ستعيش حتى تسقط الإبرة في فراغ الانتهاء.
تحياتي لك أيها الموجوع الجميل، أيها المُتجدِّد فينا وبحركة الناس أيها الملتقط الشفّاف لقد أتعبتني وأرهقتني بتلك القصيدة ومازلت، سامحك الله.. يا أعذب من أرهق الإرهاق الجميل.
صحيفة الصيحة