إن اكثر ما يثير العجب في الدولة السودانية هو أن كل حكومة تأتي يكون همها الأول هدم ما انجزه النظام الذي قبلها. لذلك نلحظ تضعضع الحس الأمني بل تلاشيه في بلد كالسودان، كان يعد على منغستو هايلامريام رئيس إثيوبيا الأسبق انفاسه، بل يعلم درجة حرارته في عهد الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري، مما جعل من الحكومات المتوالية في أديس أبابا تعمل الف حساب للحكومة السودان إذ ان من قاموا ضد هيلاسلاسي ومن قاموا ضد منقستوا انطلقوا من الخرطوم وبدعم الحكومة السودانية في الخرطوم. لذلك عملت سلسلة الحكومات التي تلت منغستو الف حساب للحكومة في الخرطوم، وعرفت قدرها وقدر جهاز أمنها الذي كانت له صولات وجولات في الجارة الغربية تشاد والجارة الشرقية إثيوبيا.
لذلك انتهزت الجارة إثيوبيا حالة السيولة في انتفاضة أبريل ضد نظام نميري، وكان أول عمل قامت به إثارة الكراهية ضد أمن نميري وذلك بتحريك عملائها في السودان وسرقة ملفات جهاز الأمن، إذ دخل فيمن دخل عملاء إثيوبيا مدعومين بإعداد من الاثيوبيين جهاز الأمن متدثرين بالانتفاضة وحملوا ما استطاعوا من أجهزة والملفات البالغة السرية الي أديس أبابا واختفت إلى الأبد.
لم تكتفي إثيوبيا بذلك وإنما اختارت من كان يربط بين المعارضة الإثيوبية وبين حكومة الخرطوم إبان الثورة ضد منغستو هيلاماريام، اختارته وطلبت من حكومة الخرطوم تعيينه سفيرا للسودان في أديس أبابا، وذلك للعلاقات الشخصية التي نشأت بينه وبينهم قادة المعارضة الاثيوبية.
كانت الاستجابة لهذا الطلب اول نقطة تحول كبيرة في تحول كفة الميزان الأمني بين السودان واثيوبيا. وبلا شك كان لهذا الرجل دور كبير في تبني الفكرة الإثيوبية واقناع حكومة الإنقاذ في التعامل بل التساهل مع اثيوبيا بشأن “ملف الفشقة” لذلك زين ذلك الرجل لحكومة السودان تساهل السودان مع رئيس الوزراء السابق “مليس زيناوي” بل استطاع ان يحسن منطق التساهل مع “الامهرا” ليضمن دعمهم ل “مليس زيناوي” حتى يستتب الأمر له وبذلك يضمن دعم “مليس زيناوي” ل ” عمر البشير” في قضية الجنائية الدولية وتغض الطرف إثيوبيا عن جريمة محاولة اغتيال الراحل “حسني مبارك” التي دارت احداثها في الأراضي الإثيوبية، علي طريقة “شيلني وبشيلك”.
وجد الاثيوبيون ضالتهم في هذا الرجل الذي استطاع ان يجند عدد من السودانيين بطرق مباشرة او غير مباشرة بالإيماء للاثيوبيين فيتلقفهم الاثيوبيون بحجة الكفاءات النادرة في المجالات المختلفة.
اول هؤلاء الرجال هو “الدكتور عبدالله حمدوك” والذي تم اختياره كمستشار في مجلس ضم خمسة خبراء لشئون افريقيا. هذا المجلس صرف عليه “مليس زيناوي” صرف من لا يخشى الفقر، في حين كان الاثيوبيون يتضورون جوعا. الاسم المعروف للعامة كان مجلس يختص بشئون افريقيا، والاسم المقصود والمراد شؤون البلاد التي يمثلونها. وكان من ذلك أن “الدكتور عبدالله حمدوك” قد اشترك في ندوات في أديس ابابا تمجد “سد الخراب” الحبشي راقصاً على نفس النغمة الإثيوبية ومردداً الحجج الإثيوبية دون الرجوع لخبراء بلاده. عبدالله حمدوك خاض فيما لايعلم ولم تسعفه بديهته ولا علمه ان يدرك ان “سد الخراب” الحبشي إنما هو سد سياسي امني.
ولو كان يريد أن يعلم لكان العلم على مرمي حجر من قدميه تسود أقلام علماء معهد ماسيتشوتس للتكنولوجيا (MIT) و علماء جمعية الأنهار الدولية (International Rivers) وتقرير الخبراء الدوليين (International Panel of Experts) و تقرير لجنة الجيوتكنكال (Geotechnical Mission Report) فضلا عن عشرات الخبراء السودانيين الذين لم يتركوا صغيرة ولا كبيرة في “سد الخراب” الحبشي الا وكتبوها. أبت نفس “عبدالله حمدوك” الا ان يري ما يراه الاثيوبيون، وان لا يري في خبراء بلاده الا مجرد عملاء لمصر وأبى ان لا يرى في شخصه عميلا لاثيوبيا وهو يرتع في خيراتها التي ضنت بها علي أهلها ويفتي فيما لا علم له به !!!
اما مشاركة ومساهة “الدكتور عبدالله حمدوك” في الثورة السودانية فالجميع يعرف انه لم يساهم فيها ولو بكلمة بل ان تمثيلية اختياره، والتي انتبه لها المكون العسكري من اول وهلة، كانت مفضوحة وليس هنا مجال ذكرها. لكن ما يجدر الذكر انه حتي الآن وبوصفه رئيس وزراء لكل السودانيين، قد التقى حتي الحركات المسلحة وضن علي علماء وخبراء السودان بمقابلتهم. فقد قابل كل من يعارض “سد الخراب” الحبشي بالعداء السافر، بل قام بمنع او اوعز لوزرائه بإلغاء مؤتمرهم الصحفي في “منبر سونا” والذي كان اول المدعوين له وزارة الري متمثلة في وزيرها الهمام بروفسور “ياسر عباس”. بل انهم كخبراء ومهندسين وقانونيين وعلماء بيئة واختصاصي سدود وعلماء في إدارة المخاطر، توفرت فيهم كفاءات وطنية لم تتوفر في لجانهم المفاوضة ولجانهم الفرعية التي لم تنجز منذ 2013 وحتي الان دراسة انهيار السد (Dam Break) وهي تغدو خماصا وتعود بطانا الي أديس. هولاء الخبراء شركاء في هم الوطن ولهم وجهة نظر مخالفة يجب أن يسمح لهم ليدلوا بدلوهم وفي زمن حكومة الثورة وفي هامش الديمقراطية التي لا تعني السماح ان تقول رايك بل ان تجد المسئول الذي يسمع ذلك الرأي ويجيبك عليه. أرسلنا مذكرة طالبين من السيد رئيس الوزراء ان يجمعنا بزملائنا في اللجنة الفنية المفاوضة لنقول الرأي الاخر وتتلاقح الأفكار لنصل الي رأي يقف خلفه جميع السودانيين. كان عشمنا ان نحظي بلقائه ليسمع منا، لكن كان مصير تلك المذكرة سلة الزبالة بعد أن مزقت شر ممزق، فالرجل كان ولا يزال اثيوبي الهوي.
ثاني الرجال هو “الدكتور سلمان محمد أحمد سلمان”، الرجل الذي لا يعلي عليه في قانون المياه الدولي، والذي يكاد أن لا يخلو موضوع في قانون المياه الدولي إلا و تجد اسمه مذكورا كأحد المراجع. الرجل الذي عمل ردحاً من الزمان في منظمات الأمم المتحدة، وانتهي به المطاف ان يكون مستشاراً لاثيوبيا بخصوص “سد الخراب” فاطلق لسانه بكل اللغات ممجداً لسد لا يعلم عنه شيئاً، تحدث بلسان عربي فصيح وبروح إثيوبية اصيلة، هاجم السودان و وصفه بأقبح الوصف (يمكن الرجوع لكتابه في الانترنت او مؤلفاته او عدد من مقاطع الفيديو) . تحدث الرجل القانوني في شتي ضروب الهندسة “الحبشية”. تحدث عن الفيضانات والاطماء وزراعة الجروف والكهرباء واسعارها ولم يفتح الله عليه بكلمه فيما يليه من تخصص، وكان الأجدر به وجوبا أن يكون سادناً للقانون الدولي. لم يتحدث عن اتفاقية ١٩٠٢ وكيف ان إثيوبيا قد خرقتها الا بالقدر الذي يظهر فيه قبطته بإنتهاك إثيوبيا بها وحرقها وذر رمادها في عيون السودانيين، وتحدث عن درة اتفاقيات المياه، اتفاقية مياه النيل وكيل الشتائم لها ولمصر وبلده السودان وصف السودان ومصر بالاستعلاء ما يجعل السامع او القارئ لا يجد ما يكفي من الدموع ليواسي إثيوبيا و الوقوف الي جنبها تضامنا مع حقعا السليب. هذا الرجل القانوني، ومستشار اثيوبيا، لم تفوت الحكومة الاثيوبية اول فرصة بعد قيام الثورة المجيدة، فقد قذفت به (مع اخرين سيأتي الحديث عنهم) مع الدكتور عبدالله حمدوك كمستشار لوزير الري في نفس الملف، في أغرب حادثة قد لا تتكرر في بلد آخر الا في السودان، وهو ما يسمي “بتضارب المصالح”. ولكن الرجل انطلق يقول نفس الحجج والتي تم ارضاعها لباقي “الكمبارس”. فالذي كان يجب أن يحتج علي اشراكه كمستشار للسودان إثيوبيا لانه عرف اسرارهم واستراتيحياتهم التفاوضية. ومن عجائب الأمور كما ذكرت اخذ الرجل يؤدي نفس الأداء في جدية لاكمال المهمة بكل جرأة.
وثالث الشخصيات هو البروفسور ياسر عباس وهو رجل تحوم حوله شبهات كثيرة تجعل من توليه لاي منصب قيادي “لحسة كوع” في عهد الثورة. فهو معروف بعلاقته بأزلام النظام السابق (أسامة عبدالله ومعتز موسي) وهناك اكثر من قصة لمن أراد أن يزداد فليذهب لوزارة الري. بروفسور ياسر عباس كان يعمل في (الانترو) في نفس المكتب الذي يعمل فيه “بيكلي” وزير الموارد المائيه حاليا وكان يشارك الدكتور حمدوك نفس البناية في السكن.
ولا يخفي علي علم القارئ المتابع ان هذا الوزير ولأول مرة في تاريخ الوزارة، قد اتخذ له مستشارا احنبيا، وقد كان السودان يمد القريب والداني بخيراء المياه الوري. لم تكن وجه المفاجأة ان يتخذ مستشارا احنبيا فحسب وإنما من أصول حبشية في وقت حساس جدا والسودان يخوض معركة “سد الخراب” الحبشي. في مثل هذا الوقت لو كان للسودان خبراء من إثيوبيا لكان اول قرار يتخذه وزير الري هو إنهاء خدمتهم هذا فضلا عن تعينهم في منصب حساس كهذا، والسودان ممتلئ بخيرات وعلماء يبذون هذا المدعو خبيرا . والغريب في الأمر رغما عن الفشل الزريع في كل الاتجاهات لا سيما في ملف “سد الخراب” ان لا تطال يد التغيير الوزاري السيد وزير الري وما تمسك “حمدوك” به الا اكبر دليل علي انه احد شركاء المهمة الصعبة.
رابع الشخصيات البروفسور “سيف حمد” وهو وزير ري سابق وقد شارك في عدة ندوات إقامتها السفارة الاثيوبية في النطام البائد ممجدا لسد الخراب الحبشي واعتقد ان له يد مع الدكتور سلمان في وضع اتفاقية اعلان المبادئ وفي تسهيل مهمة الاثيوبيين في الدوران علي “سلامة السد”
وخامس الشخصيات الدكتور عثمان التوم، وزير الري في حكومة ايلا و رفيق “روضة الحاج” فالرجل رغما عن الشهادات التي يحملها لم يتعد علمه في الهندسة ما يهزو به رجل القانون سلمان محمد احمد سلمان.
بعد ان حاولنا كل الطرق الممكنة للوصول للساسة وصانعي القرار وبعد أن كشفنا كل الحجج الداعمة “لسد الخراب” الحبشي وابنا بالعلم والاسانيد الصحيحة والتي لا تجعل مجالا للشك في ان هذا السد هو سد سياسي وليس له بموضوع الكهرباء علاقة، نضع الشبهات الامنية أمام الكل، ليعرف القاصي والداني ،،،،، ويا لمحاسن الصدف ان تتلاقي هذه الزمرة صدفة. وكلمة السر كلمة واحدة فهل من قبيل الصدف ان تتكون من خمسة اسماء، ،،، وهذا ما يحعلنا نطالب بشدة بنزع هذا الملف الخطير من يد الحكومة التنفيذية وتحويله لمجلس رأس الدولة فورا وتكوين مجلس خبراء موسع يضم قدامي المهندسين وخبراء السدود والقانونيين و البيئة وإدارة المخاطر والامن علي رأسه لجنة فنية وطنية، والتحقيق مع كل من تولي هذا الملف واوصل السودان الي حافة الهاوية.
اللهم اني قد بلغت ،، فليحدث الحاضر الغائب.
بقلم :مهندس/ عبد الكافي الطيب احمد
الوطن الالكترونية