لديه قدرةٌ فائقةٌ على قراءة التحوُّلات السِّياسيَّة والتاريخية، ويحتقب أحياناً أدوات السخرية الفاقعة، خُصُوصاً وسط الخطوب المُدلهمة، ولا معقولية المشهد السوداني، تجده بسمته القديم، في مكتبه القديم بجامعة أفريقيا، لكنّ رمق العمر الأخير داهمه كما يبدو، فخط الشيب على مفرق تجاعيده، دون أن يتخلّى عن حس الدعابة، والانغماس في الكتب ودس الأفكار في أحاديثه، هو الدكتور حسن مكي وكفى، لا يشعر بأنّ ثمة منصباً رفيعاً في الدولة كان يناسبه، ويبرر ذلك بأن الناس لا تعرف مَن هو الحاكم في زمن أبو حنيفة.. حاولت في هذه المقابلة القصيرة، لموقع “الواحة” معرفة ما يدور في ذهنه إزاء الواقع، وتفسير ما جرى، واستقراء المُستقبل، فكان جريئاً صادماً أحياناً، بقرون استشعار رهيبة، لنرى ما قاله:-
الواحة- عزمي عبد الرازق
* قبل أن نخوض في القضايا العامة يا دكتور، أسمح لي أن اسألك سؤالاً شخصياً، لماذا أنت محتجب بالمرة؟
_ والله كوني لسه قاعد في مكتبي دي نعمة كبيرة “قالها ضاحكاً”.
* الوضع بهذه الخطورة؟
_ الحمد الله ما ودُّوني كوبر، ولا خارج أسوار الجامعة.
* هل كنت تتوقّع أن يسقط نظام الإنقاذ بهذا الشكل؟
_ كنت أتوقع أن يسقط “مافي اثنين ثلاثة”.
* كيف قرأت مؤشرات السقوط؟
_ السودان حصلت فيه متغيرات كبيرة، وحتى سنة ١٩٥٠ أهم شخصية كانت هي الحاكم العام، بعد ذلك التاريخ أصبحت أهم شخصيتين، هما السيد عبد الرحمن المهدي والسيد علي الميرغني، وجاء إسماعيل الأزهري وعمل تجاوزاً لهما، لذلك لم يسمح له أن يستمر بعد رفع العَلَم، فحدث لقاء السيدين الذي مهّد لدخول الجيش في السياسة، وجاء نظام الفريق عبود. في مارس “٥٩” توفي السيد عبد الرحمن المهدي، وبعد أكتوبر توفي السيد علي الميرغني، عقب ذلك ظهرت ثلاث شخصيات بقوة في المسرح السياسي، هم السيد الصادق المهدي، دكتور حسن الترابي وعبد الخالق محجوب.
* متى انتهى المشهد السياسي القديم وبدأ المشهد الجديد؟
_ انتهى بموت إسماعيل الأزهري ووقوع انقلاب الجيش الثاني، وبدأ المشهد السياسي الجديد بظهور شخصية رابعة مع الترابي والصادق وعبد الخالق وهو جعفر نميري، الآن كل هذه الشخصيات اختفت .
* بمناسبة الصادق المهدي، أُثيرت شكوك حول وفاته، وكذلك الترابي إلى حدٍّ ما، فهل تظن أن إسرائيل قامت بتصفية الصادق نتيجةً لموقفه الرافض للتطبيع؟
_ زمان كان عندنا ناظر في حنتوب اسمه عبد القادر رحمه الله، وسباق للضاحية، كان بقول لينا “يا ابني أقع قبل ما تقع”. هم استنفدوا فرصهم في الحياة، وبعد الثمانين، الإنسان لا يقوى على شيء.
* تعني أن موتهم كان طبيعياً؟
_ موتهم كان طبيعياً، ما عدا عبد الخالق محجوب، الذي أُعدم في سن “٤٢” تقريباً.
* هل تعتقد موت عبد الخالق ساعد في تمدد الترابي والصادق، على سدة المسرح السياسي؟
_ مُؤكّد، لأنّ ذهاب عبد الخالق وذهاب محمود محمد طه فتح المجال للحركة الإسلامية للتمدد، وعلى نطاق عبد الخالق ملأت الحركة الفراغات التي كان يُسيطر عليها اليسار، من نقابات وغيرها، وفي الجانب الآخر ذهاب محمود محمد طه ساعد الحركة في العمل الفكري، خصوصاً وأنّه كان يعمل وسط الطبقة المُستنيرة التي تحيّدت بعده، وما عاد للحركة الإسلامية منافس قوي.
* بالعودة للتغيير في أبريل ٢٠١٩ أو ما يُعرف بثورة ديسمبر المجيدة كيف كُنت تنظر إليها وهي تتخلق؟
* مافي ثورة بالمُناسبة، أنا كنت مستغرباً عندما رأيت حمدوك يقول لماكرون “نحن عندنا ثورة بتشبه الثورة الفرنسية!” فالثورة الفرنسية مات فيها عشرات الآلاف، وتغيّر النظام وجاء نابليون حكم أوروبا كلها، بينما أنت هنا في السودان تتآكل، والثورة في حقيقتها تتمدّد، يبدو أنّ الصورة ما واضحة في ذهن حمدوك.
* طيب، ما الذي حَدَثَ في السودان؟
_ حدثت انتفاضة، أي احتجاجات شعبية أدت إلى تقويض حكومة وقيام حكومة أخرى.
* هل تعني بأنّ الإنقاذ لم تسقط بعد؟
_ أنا بفتكر أن الحكومة الجديدة هي الإنقاذ “٣”، فالنسخة الثالثة من الإنقاذ هي الحاكمة الآن.
* أشرح لنا الموضوع أكثر ليستبين؟
_ الإنقاذ الأولى هي مثلث “الترابي، البشير وعلي عثمان”، والإنقاذ الثانية هي “البشير”، أما الإنقاذ الثالثة فهي اللجنة الأمنية والتي لا تزال تحكم، وأنا افتكر أن بعضهم كان عنده رجاحة عقل وقوة تقدير، وفي النهاية استطاعوا أن يتماشوا مع الموجة، إلى أن يكسروها، يمشوا مع موجة اليسار ويمتصوها، والآن الأمور تحت سيطرتهم، ودي أغرب حاجة طبعاً.
* ما الغريب في ذلك؟
_ الآن نحنُ في أبريل، ومِنَ المُفترض أن تنتقل القيادة من المدنيين للعسكريين.
* ما الذي منع انتقالها؟
_ “المدنيين ذاتهم لو أدوهم ليها ما بشيلوها، وهم ما عندهم ثقة”، بدليل أنّ رئيس الوزراء حتى الآن لم يستطع إقامة مُقابلة جماهيرية ناجحة، والآن الجبهة الشعبية التي احتوت الثورة تكسّرت، وهي جبهة كانت تضم ألوان الطيف اليساري، وحزب الأمة، الآن ما عادت موجودة، ولو قريت قرارات مجلس الأمن ما بيقول حكومة السودان، يقول حكومة حمدوك المدنية، بالاسم، ودي حاجة غريبة.
* ماذا يعني هذا؟
_ معنى هذا أنّ التدخُّل الخارجي الآن كبيرٌ جداً، وهنالك أموالٌ تُدفع، وأغرب حاجة أن جوبا تقود الخرطوم، مع أنّ الفارق الحضاري بين جوبا والخرطوم نحو مائتي سنة، وهذا ليس لأنّ جوبا فيها سلفا كير، وإنما فيها المخابرات الغربية، وحتى اتفاقية جوبا للسلام، لن يتم تنفيذها، لأنها معمولة بخبرات أجنبية، وفيها تفاصيل ومصفوفات لا قبل للعقل السوداني بها “الناس ديل دايرين وظائف”.
* هنالك حكومة قائمة الآن تبدو كما لو أنّها في صراعٍ مع المُجتمع السوداني وهويته، فهل ترى ذلك؟
_ لعل جُل أبطال المرحلة، شيوخٌ وشبابٌ لا صلة لهم بهوية السودان المركزية، حاضنتهم غربية تمويلاً وتتظيماً، ويُريد بعضهم التبشير بأفكار ما بعد الحداثة الغربية، والمجتمع السوداني في مرحلة الصدمة، إزاء أفكار الأنثوية والإجهاض والمثلية وتهويمات الجمهوريين، وسيداو.
* ها ستنجح مُحاولة تسويق هذه الأفكار؟
_ سوف ترتطم مُرتدة على الجدار الاجتماعي، الذي نجح في صد التأثيرات السلبية لحكم القوة التركية المُتمصرّة، وكذلك حكم النخبة الإنحليزية، واحتفظ بتماسُكه وهويته القومية وثقافته الإسلامية.
* كيف تنظر للواقع السياسي الآن؟
_ الآن في السودان يُوجد فراغٌ سياسيٌّ كبيرٌ، وهذا الفراغ احتلته دول الخليج ومصر، ومن خلفهم أمريكا وبريطانيا.
* ما هي القوى الفاعلة الآن على أرض الواقع؟
_ القوى الخارجية مؤكد، لأنك أنت الآن قبلت بالتطبيع مع إسرائيل ومع سياسات البنك الدولي، ومؤتمر باريس “مُجبراً أخاك لا بطل”، والعصا الأمريكية بدأت منذ نيفاشا، وأذكر في نيفاشا كنت هنالك وقلت لمنصور خالد، إيه الحاصل؟ فقال لي “والله ياخ، الأمريكان ديل ساكِّننا بعصيهم”، وبعدين إنت الآن عاوز تعمل دارفور إقليم واحد، وهذا فقط لمقابلة مطلوبات الحركات المسلحة، ومقابلة مطلوبات مني أركو مناوي الذي كان متحالفاً مع إدريس ديبي، وديبي كان بفتكر أنه مافي نظام في تشاد يمكن أن يصمد إن لم تكن وراؤه دارفور، ومافي ثورة ضد نظامه بتنجح إن لم تكن وراؤها دارفور، ولذلك كان عاوز يوحد دارفور.
* ما هي تداعيات رحيل إدريس ديبي على السودان والمنطقة عموماً؟
_ الآن الإقليم كله ابتداءً من شهر يونيو المقبل سيكون في حالة حرابة، والجامع المشترك هو الفراغ السياسي، فراغ سياسي في الصومال، لأن فرماجو انتهت مدته، وقام بشراء النواب ومدّد لنفسه عامين، ودخل أمراء الحرب مقديشو في انتظار ساعة الصفر، كذلك الانتخابات الإثيوبية المُؤجّلة حا تكون فيها ساعة صفر، لأنّ التيغراي لن يشاركوا فيها، وعندهم مجموعات كبيرة.
* هل تتوقّع قيام حرب بين السودان وإثيوبيا؟
_ لا ما بتقوم حرب، لكن ستكون هنالك مناطق ملتهبة، إثيوبيا حا تحرك حلفاءها داخل السودان، والسودان قد يُحرِّك حلفاءه داخل إثيوبياء، وتقوم حروب بالوكالة، خصوصاً وأنّ السلاح مُنتشرٌ، كذلك تشاد وضعها حا يكون مثل وضعها بعد ذهاب سياد بري، والزغاوة منقسمون والقرعان، وأمس رئيس اتحاد نقابات العمال، وهو شخص له نفوذ، أعلن أنه لا يقبل أن تعامل تشاد معاملة ملكية، والأسرة ليست على قلب رجل واحد، كما أن محمد هو ولد ديبي بالتبني، وليس هو ابنه الحقيقي، وبالتالي تشاد سوف تنضم إلى نادي المجهول.
* بالعودة مرة أخرى السودان، إلى ماذا يُمكن أن يفضي انهيار الاقتصاد وتدهور الأوضاع المعيشية؟
_ إلى تنمية القبضة العسكرية، لأنّ الجيش أكثر قطاع مُنظّم، عنده علاقاته وشركاته وهو أقل تأثُّراً، لكن الطبقة الوسطى هي التي تتآكل، في الماضي لمن نقول “باشكاتب” يعني دولة، الآن الأستاذ الجامعي يحتاج إلى زكاة، والبروفيسور في جامعة الخرطوم مرتبه حوالي مائة دولار، ما بتأجِّر ليه “شقة”، والطبقة الوسطى التي كانت تقود سياسياً واجتماعياً مُتآكلة ومُتناحرة، والآن لا توجد جماعة سياسية، واختفاء الصادق المهدي فاقم ذلك.
* ألا تتّفق معي أنّ المُكوِّن العسكري يتعرّض إلى ابتزاز من القوى التي حصلت على كثير من الامتيازات على حساب قوى سياسية أخرى؟
_ الوثيقة الدستورية ما عندها قيمة وأصبحت مضروبة، والآن تَشكّل مجلس شركاء الفترة الانتقالية، وهو غير موجود في الوثيقة، وهذا المجلس أصبح رئيسه البرهان، فجمع بين السلطة المدنية والعسكرية، ومن داخل هذا المجلس يستطيع أن يُمرِّر الأشياء التي يُريد أن يُمرِّرها.
* على أرض الواقع لا يبدو ذلك صحيحاً فيما يخص البرهان؟
_ هو الآن لا يريد أن يدخل بشدة حتى لا يظهر، لكن في الحقيقة هذا هو الانقلاب المُتسلِّق، مثل النباتات المُتسلِّقة، تتصاعد وتنتشر.
* ألا تعتقد أن المكون المدني ممثلاً في حمدوك يعلم بكل هذا وتم باتفاق معه؟
_ حمدوك الآن لو نزل انتخابات لن يفوز، هو يعرف ذلك، ويعرف أنّ صاحب الملك أنزل عليه هذه الوظيفة الدستورية التي لم يكن سينالها بأي طريقة أخرى.
* هل حمدوك ليست لديه طموحات سياسية؟
_ حمدوك الآن استنفد فرصه.
* دعنا ندلف إلى جدلية أخرى مُؤرّقة جاءت بها اتفاقية السلام، وهي فصل الدين عن الدولة؟
_ أنا طبعاً مستغرب من القصة دي، فهل حمدوك يمثل خليفة للمسلمين، حتى تقول دين ودولة؟
* ماذا تقصد بهذه الإشارة؟
– هذه الدولة عملها كتشنر، والآن هي دولة قومية وطنية ترابية، يعني ما دولة أمة، وهي بالتأكيد دولة لا تقوم على أساس المُعطيات الدينية، صحيحٌ فيها معطياتٌ حتى كتشنر كان حريصاً عليها، مثل الأحوال الشخصية، ومدرسة القضاة الشرعيين كانت جُزءاً من كلية غردون التذكارية، المهدية أوقفت الحج، كتشنر فتح طريق الحج، وغردون في المرة الأولى أمر العساكر في الفرقة بالصلاة وبنى لهم مسجداً، وبالتالي الصراع هنا حول أفكار هلامية، لأنّ السودان دولة ذات مرجعيات دينية مثل بريطانيا، فهل تستطيع أن تُطالب من بريطانيا إلغاء التاريخ الميلادي، أو تمنع الملكة أن تكون رئيسة الكنيسة الانجليكانية؟ هذا خلطٌ كبيرٌ من الحلو والبرهان وحمدوك، فالدين مَفْصُولٌ من مشروع كتشنر، لكن الآن تُوجد دولة وطنية ترابية ذات مرجعيات ثقافية، والمُحرِّك الثقافي الآن في السودان هو اللغة العربية والإسلام.
* هل تعني أنّ الحديث الآن عن انتصار التيار العلماني غير صحيح؟
_ سواء كان الإسلاميين أو العلمانيين كلهم في وهم كبير، لأنّ الإسلاميين كانوا بفتكروا في دولة إسلامية رئيسها حمدوك، والعلمانيين بفتكروا أننا ما زلنا بنعيش في أيام المهدية والجهادية، الآن نحن مع مشروع كتشنر.
* كف تنظر إلى مستقبل السودان؟
– السودان بلدٌ مُتخلِّفٌ، ومفترض الناس ما تنزعج من هذا الوصف، بريطانيا قبل الحرب العالمية كانت عندها آلاف السفن، وعندما جاء غردون السودان سنة “١٨٧٣” كان يحمل معه مشروعاً خطيراً، وهو سكك حديد، القاهرة – أسوان – وادي حلفا – الخرطوم – جوهانسبيرج، والآن أنت لا تستطيع أن تصنع قطع الغيار، والفرق الحضاري بينك وبريطانيا نحو ثلاثمائة عام، وبعد ثلاثة قرون يُمكن أن تصبح أنت في مُستوى بريطانيا الآن.
*هذه نظرة مُتشائمة يا دكتور؟
– بريطانيا صنعت القاطرة قبل مائتي سنة، والآن لا تستطيع صناعة “اسبير” لتلك القاطرة، وبالتالي نحن الآن معركتنا مع التخلُّف، وبحاجةٍ إلى إرادة وتصميم ومرجعيات، مثل اليابان وكوريا، لكن أنت الآن مُهدر وقتك في قضايا غير مُجديةٍ.