تثقل الأزمة الاقتصادية كاهل السودانيين منذ أشهر طويلة، لكن مع حلول شهر رمضان هذا العام تفاقمت الأوضاع لحد بعيد، وامتدت إلى آلاف الأسر التي باتت تعجز عن تغطية تكاليف الحياة البسيطة.
وظلت معدلات التضخم في ارتفاع منذ مطلع هذا العام صاعدةً إلى أرقام فلكية تعكس حجم المعاناة التي يخلفها الارتفاع المضطرد في الأسعار على نحو شبه يومي دون أن تتمكن الحكومة من كبح جماح السوق وإيقاف الزيادات التي يراها كثيرون “غير مبررة” وأنها تعكس بقدر كبير جشع التجار وغياب رقابة الدولة.
وبحسب بيان أصدره الجهاز المركزي للإحصاء يوم 11 أبريل/نيسان الجاري، فإن معدل التضخم السنوي لشهر مارس/آذار الماضي سجل ارتفاعا بلغ 341.78% مقارنة بـ330.78% لفبراير/شباط السابق بارتفاع 11 نقطة.
وصعد معدل التضخم للسلع المستوردة في سلة المستهلك إلى 243.08% لشهر مارس/آذار السابق مقارنة بـ208.08% للشهر قبل الماضي.
وأشار البيان إلى أن معدل التضخم السنوي للمناطق الحضرية ارتفع إلى 314.68% لشهر مارس/آذار الماضي مقارنة بـ301.55% في الشهر الذي سبقه.
كساد وغلاء
وتبعا لذلك، شكا تجار في اثنين من الأسواق المحلية الشعبية من كساد واضح، رغم أن شهر رمضان كان يعتبر موسما للربح الوفير، ويقول علي الناير للجزيرة نت إن الإقبال على شراء السلع باستثناء الأساسية منها انخفض على نحو ملحوظ خلال الشهرين الأخيرين بسبب الزيادات المستمرة في الأسعار، ويقول إن الشركات المنتجة للمواد وتلك المستوردة للسلع هي المسؤولة عن وضع تلك الأرقام الفلكية لمنتجاتها.
ويقول خالد التاج -وهو عامل سباكة يبحث عن رزقه يوميا- إن الارتفاع الكبير في أسعار السلع أجبره على تقليص احتياجاته إلى أقل من النصف، والاكتفاء بشراء الضروريات كالسكر والشاي.
ويضيف للجزيرة نت أن تكلفة التحرك من منزله إلى حيث يمكن أن يجد عملا باتت أعلى بكثير من أي وقت مضى، بسبب ارتفاع ثمن المواصلات تبعا لسياسة تحرير أسعار الوقود التي أقرتها الحكومة مؤخرا واضطر معها أصحاب المركبات لوضع تعرفة عالية تواكب غلاء قطع الغيار وتوازن قيمة الوقود عالي التكلفة.
ويردف “الوضع صار فوق الاحتمال، أحيانا لا أجد عملا ويكون علي الذهاب للمنزل بلا خبز لأني أدخر ما بحوزتي لأتمكن من العودة إلى السوق غدا أملا في الحصول على عمل، ومع حلول شهر رمضان تتضاعف الأوضاع صعوبة”.
أما فاروق عمر، الذي يعمل في أحد محلات بيع الأدوات الكهربائية، فيؤكد للجزيرة نت ضعف الإقبال على الشراء هذا العام مقارنة بالمواسم السابقة، حيث انحصرت المبيعات على أجهزة التكييف والخلاطات بالنظر إلى حاجة البعض الملحة إليها بعد دخول شهر الصوم وارتفاع درجات الحرارة.
ويعزو الركود في عمليات البيع إلى ارتفاع أسعار المنتجات، حيث تتراوح أسعار مكيفات الهواء بين 70 ألفا و350 ألف جنيه (الدولار الواحد يساوي 379 جنيها).
وعلى غير العادة في أيام شهر رمضان، بدا سوق الخرطوم بحري خاليا من المشترين، وهو الذي عرف على مدى سنوات بالاكتظاظ الشديد.
جشع التجار
يتحدث أحمد بشير، وهو موظف حكومي، للجزيرة نت قائلا إنه كان في السابق يشتري خلال شهر رمضان أصنافا متعددة من الفاكهة، لكنه اليوم لا يستطيع ذلك، ويكتفي بنوع واحد بسبب جشع التجار.
ويشير إلى أن 120 قطعة من المانجو المعبأ تبلغ 4 آلاف جنيه، في حين تُباع 12 قطعة بالتجزئة بمبلغ ألف جنيه، وأضاف “لا أستطيع شراءها بهذا السعر، لذا سأشتري منتجات أقل سعرا مثل التبلدي والكركدي”.
وفي ضاحية الرياض الراقية تبدو الصورة مغايرة نوعا ما، حيث يعيش أغلب الناس في مستوى معيشي مرتفع وتكون محلات التسوق الكبرى مكتظة بالمشترين رغم ارتفاع أسعار السلع فيها نسبيا مقارنة بالأحياء الطرفية.
وتقول أميرة، وهي سيدة أربعينية، بعد إكمالها شراء مستلزمات بنحو 40 ألف جنيه، إن وجود أبنائها في الخارج هو ما يعينها على مواجهة الأسعار المتصاعدة يوميا، وتقسم في حديثها للجزيرة نت أن الأغراض ذاتها كانت تشتريها العام الماضي بحوالي 10 آلاف جنيه وربما أقل.
أما زهرة العباس فقالت إنها فضلت وزوجها عدم صرف مدخراتهما القليلة على احتياجات رمضان للتمكن من مواجهة متطلبات العيد الخاصة بملابس أطفالهما الثلاثة.
وأشارت إلى أن راتب زوجها البالغ 22 ألف جنيه لا يكفي لأقل احتياجاتهم، لكنها تلفت إلى جهود تبذل في الحي الذي يقيمون به -السامراب شمالي الخرطوم- نجحت في التخفيف قليلا من وطأة جنون الأسعار، حيث تبيع اللجنة بعض المنتجات الاستهلاكية بسعر أقل من السوق، إذ يبلغ سعر جوال السكر زنة 10 كيلوغرامات 900 جنيه في حين يُباع بالسوق بـ1450 جنيه، وقالت زهرة إن هذه الجهود خففت عليهم بعض الشيء.
وفي مكان قريب، كان طارق عبد الرحيم يجادل وهو يبيع البرتقال للمشترين، معللا زيادة الأسعار بارتفاع تكلفة النقل بعد زيادة المحروقات، إضافة لارتفاع سعر البرتقال من المنتجين أنفسهم، كما يقول.
إقرار حكومي
طلب صندوق النقد الدولي في التاسع من مارس/آذار الماضي من الحكومة السودانية إصلاح سعر الصرف الجمركي في الوقت المناسب لزيادة الإيرادات والقدرة التنافسية، وهو ما يرهق كاهل المستهلكين مستقبلا بمزيد من الزيادات في الأسعار.
ويقر وزير الصناعة السوداني إبراهيم الشيخ بتصاعد أسعار السلع في الأسواق بسبب ارتفاع سعر الصرف واستيراد المواد الخام، وأشار خلال تدشينه أسواقا تعاونية بأم درمان هذا الأسبوع إلى فوائد السوق ومساهمته في رفع المعاناة عن المواطنين.
وقال “نكاد نشهد استقرارا نسبيا في الأسعار”، وأشار إلى أن وزارة الصناعة ستعمل مع المؤسسة التعاونية في دعم برنامج “سلعتي” وخلق جمعيات تعاونية لنشرها في كل مدن السودان، والتحول من جمعيات تعاونية مستهلكة إلى منتجة لمحاربة السماسرة والوسطاء.
وفي متجر “نجوم الخرطوم” بضاحية السجانة في العاصمة، يعمل الشاب علي عثمان محمود في محاسبة العملاء، ويقول للجزيرة نت إن القدرة الشرائية لم تشهد تراجعا لكن التضخم يلقي بظلاله الكبيرة على الموقف حيث تشهد أسعار السلع ارتفاعا من المنتجين على نحو أسبوعي.
ويقول “من المستحيل أن نستجلب أي سلعة اليوم بذات سعرها الذي كانت عليه الأسبوع الماضي، الشركات خاصة تلك العاملة في اللحوم تزيد أسعارها بشكل مستمر حتى وصلت إلى أرقام جنونية، وكثير من الناس يتراجعون عن شرائها بعد معرفة السعر الجديد”.
ويشير إلى أن التبرير الذي يساق دائما هو ارتفاع تكلفة النقل للمنتجات المحلية، كما أن المصانع تحاول تغطية الكلفة العالية للإنتاج بعد تحرير أسعار الكهرباء والوقود وزيادة رواتب العاملين.
كما يقول محمود إن التجار الكبار الذين يتحكمون في السوق يزيدون الأسعار تحت ذريعة الارتفاع الذي طرأ على الدولار الجمركي، لكنه يلفت كذلك إلى أن السوق بحاجة إلى ضبط ورقابة حكومية لأن الكثير من التجار يضعون الأسعار وفق المزاج الشخصي، وهو ما يجعل السلعة ذاتها بسعر مختلف لدى أكثر من تاجر.
المصدر : الجزيرة