البرهان الساطع

(1)
أما المعني بهذا العنوان فليس السيد رئيس المجلس السيادي الانتقالي بشخصه، ولكنه ليس بعيداً عنه فهو يشير إلى إفادات بالغة الأهمية أدلى بها قي مقابلته مع “الحدث”، قناة العربية الإخبارية، مطلع الأسبوع الجاري، وأكاد أزعم أنها المرة الأولى التي أستمع فيها إلى مسؤول رفيع منذ تشكيل السلطة الانتقالية يدلي بما يمكن وصفه بـ”جمل مفيدة” فيما يتعلق بشؤون وأجندة الانتقال المعقدة، بما يتجاوز”الكلام الساكت”، أقصد ذلك النوع من التصريحات التي لا تفيد بعلم، وتذهب أدراج الرياح قبل أن تستقر في أذن المرء دعك من أن يأخذها بجدية، وأهمية إفادات السيدّ البرهان في هذا الحوار أنها توفر مادة للرأي العام لإثارة نقاش ذي معنى حولها، وبالطبع الأمر لا يتعلق بمجرد الاتفاق أو الاختلاف مع أثارته أجوبته بل في دلاتها في سياق تعقيدات الانتقال التي تخيّم على البلاد.
(2)
أمر آخر يتعلق بهذه الإفادات كونها تعيّد إلى الأذهان ما يكاد يصبح محل إجماع وسط الرأي بأن الحكومة الانتقالية، بكل هياكلها التنفيذية والسياسية وشقيها العسكري والمدني، تتميز بأنها السلطة الأقل حساسية تجاه الرأي العام في تاريخ الحكومات السودانية، حسب توصيف شخصية إعلامية مخضرمة ومرموقة، وهذا ما يتجلى في تجاهلها شبه التام للتجاوب مع قضايا الوطن والمواطنين متدثرة أغلب الوقت بصمت مثير وكأن ما يحدث يجري في بلاد أخرى، هذا الشُح في التعاطي مع الرأي العام السوداني، يقابله انفتاح غير مسبوق في التعامل مع الخارج، فحديث البرهان كان أولى به مخاطبة الشعب عبر وسائل إعلام وطنية، ولكن يبدو أنها رسائل موجهة للخارج، وهو ما يؤكد حقيقة ثقل رهان السلطة الانتقالية على الروافع الأجنبية، مع ضعف إن لم نقل انعدام إيمانها بجدوى وزن الأجندة الوطنية، والرهان عليها بما يتجاوزعقد الصفقات والتحالفات السياسية الساعية لإطالة الفترة الانتقالية أو استدامتها في واقع الأمر بأكثر من عنايتها بتحقيق المشروع الوطني الغائب.
(3)
ولعل الإفادة الأكثر أهمية التي أدلى بها البرهان للحدث، توصيفه للواقع الراهن للعلاقات السودانية الأمريكية وقد كان لافتاً أن إجابته طغى عليها الإحباط وهو يشكو من أن “التوقعات” بحدوث اختراق سريع لإقامة شراكة “حقيقية واستراتيجية” مع واشنطن لم تتحقق بعد أو تسير ببطء على الرغم “بالإيفاء من المطلوبات من طرفنا”، وأن “الاعتقاد” حسب تعبيره، بحدوث تغيير في السياسة الأمريكية تجاه السودان تنساب معه علاقات طبيعية في المجالات كافة تبدو محاطة بالتعقيدات، ولفت إلى أن سياسة “المصفوفات” لا تزال سارية، والمعروف دبلوماسياً أنها تعني طرح”حزمة اشتراطات” متجددة تدفع بها واشنطن عادة مع كل اقتراب من تسجيل هدف بتحويل المرمى في تلك العبارة الشهيرة لصلاح قوش بعد تجربته كعرّاب الانخراط في الحرب الأمريكية ضد الإرهاب، فقد كشف البرهان أن الحكومة الانتقالية تلقت مصفوفة أخرى من إدارة بايدن الجديدة، وهو ما جعله يبدي تبرمه من أن سياسة أن المصفوفات، أو الاشتراطات الأمريكية المتحركة بالأحرى، تضيف تعقيدات على آمال استعادة العلاقات الطبيعية مع واشنطن، وهو ما جعله يخلص إلى القول بعدم حدوث تغيير في السياسة الأمريكية تجاه السودان، على الرغم من تغير الإدارات في واشنطن وتغير النظام في الخرطوم.
(4)
لا شك أن إفادة البرهان هذه تأتي مفاجئة بكل المعايير، لا سيما عندما تُقرأ في سياق الأجواء الكرنفالية الحكومية التي تصوّر وضع العلاقات بين واشنطن والخرطوم في الوقت الراهن بأنها في أحسن حالاتها، وأنها مفتوحة على آفاق بلا حدود من التعاون في المجالات كافة، ولذلك يقفز السؤال ما الذي يجري وراء الكواليس حقاً، وما الذي دعا رئيس المجلس السيادي ليخرج هذا الهواء الساخن ملقياً بهذا “البرهان الساطع” على أن الأمور في جبهة العلاقة مع الولايات المتحدة ليست على ما يرام، أو على الأقل لبعض أطراف الشراكة في تحالف السلطة الراهن، وما الذي يجري على جبهة العلاقة مع تل أبيب التي تحدث عنها أيضاً بغير حماسة فهل مسّها طائف من شيطان “تقلبات السياسة”، وهل لذلك صلة بالعراقيل التي طرأت على سكة واشنطن، هذا ما نأمل مواصلة تحليله إن شاء الله في مقال قادم

خالد التيجاني
صحيفة السوداني

Exit mobile version