* ما حدث في مدينة الجنينة، عاصمة ولاية غرب دارفور، بالأمس موجعٌ ومُفزع، ويدل على أن حياة الإنسان في بلادنا بلا قيمة، وأن مسلسل الموت المجاني يستحرٌ فيها ويستشري كلما فتح ساستنا أفواههم الكذوبة، ليحدثوا شعبهم المنهك المسكين عن اتفاقٍ جديدٍ للسلام.
* عهدنا باتفاقات السلام في بلادنا أنها لا تُوقف حرباً، ولا تُنتج إلا المزيد من القتل والدمار والخراب، لجهة أنها لا تعالج جذور الأزمات، بقدر ما تهتم ببذل المقاعد الوثيرة، والمناصب والمكاسب للموقعين عليها.
* شهدت الجنينة حرب شوارعٍ بشعة، وثقتها مقاطع فيديو مُحزنة، وصور صادمة، تلطخت بالدماء، وتناثرت فيها الأشلاء، لتدل على غياب هيبة الدولة في المركز، وتؤكد ضعف وخيبة حكومة الولاية، وعدم اضطلاع القوات النظامية والأجهزة الأمنية بمهامها، مثلما تشير إلى لا مبالاة حُكّامنا بحياة أهلهم، وفشلهم في توفير الأمن والطمأنينة لهم.
* ما حدث في الجنينة، وما جرى قبلاً في قريضة وسرف عمرة ونيالا وكادوقلي وبورتسودان وكسلا والقضارف وغيرها، يدل على أن بلادنا الممكونة المحزونة صارت على مرمى حجر من حربٍ أهليةٍ شرسةٍ، وقودها صراعات سياسية وجهوية وعرقية استشرت تبعاً لضعف قبضة الدولة، واضمحلال هيبتها، وفشل حكامها في حماية المدنيين.
* استخدمت في معارك حاضرة غرب دارفور الأسلحة الثقيلة والآلية والمدافع والقنابل اليدوية، وراح ضحيتها عشرات القتلى ومئات الجرحى، وسط غيابٍ تامٍ لحكومة الولاية وكل الأجهزة الأمنية، التي سجلت صفراً كبيراً وعجزاً مشهوداً عن إنجاز مهامها، وأكدت سوء أدائها وتفريطها وضعف همتهما، وعدم اهتمامها بأداء الواجبات الموكلة إليها.
* أشارت التقارير الواردة من المدينة المنكوبة إلى توافر أعداد كبير من القوات النظامية فيها، وأكدت وجود أكثر من ثلاثمائة عربة تاتشر مزودة بالدوشكات، لم تفلح في حماية المدنيين، ولم توفر الأمن للأطفال والنساء والشيوخ والمرضى، فبات وجودها مثل عدمه.
* كثرةٌ كغثاء السيل، لم تغن عن أهل الجنينة شيئاً، ولم توفر لهم الحد الأدنى من الحماية والطمأنينة المفقودة.
* أدهى من ذلك أن بعض التقارير أشارت إلى تورط نظاميين في حرب الشوارع التي أفنت الحرث والنسل، وأهدرت طمأنينة المدنيين، ولم يسلم منها حتى مرضى المستشفيات.
* نسأل المُكوِّن العسكري في مجلس السيادة، ما دوركم بعد أن تعددت مظاهر الانفلات الأمني، وانتشرت الصراعات الجهوية والقبلية بطول البلاد وعرضها، وشاع استخدام الأسلحة الثقيلة في مواجهة المدنيين العُزّل؟
* ما فائدة احتفاظكم بحقيبتي الدفاع والداخلية، طالما أن القوات التي تأتمر بأمركم عاجزةٌ عن أداء دورها في حفظ الأمن وحماية المدنيين وملاحقة وضبط من يروعون الناس ويقتلونهم بلا سبب؟
* تتمدد مسؤولية التقصير، لتشمل رئيس الوزراء المستعصم بمكتبه الوثير في شارع الجامعة، ووالي الولاية الذي سجل فشلاً ذريعاً في محاصرة صراعاتٍ لا تهدأ إلا لتندلع من جديد، من دون أن تضع لها حكومته تدابير توقفها وتمنع تكرارها.
* فقد العشرات حياتهم، وأصيب مئات المدنيين، وفقد عشرات الآلاف الأمن والمأوى، واضطروا إلى مغادرة منازلهم طلباً للنجاة من حربٍ مجنونة، لم تجد من يعالج أسبابها، على تفاهتها ووضاعة شأنها.
* لن يستقيل أي مسؤول من منصبه، ولن يُطرد أي مُقصِّر تبعاً لكارثة الأمس، ولن تهتم الحكومة المركزية بمعالجة جذور الأزمة، ولن تبذل أي جهدٍ لمنع تكرار الأحداث الدامية.
* ستقتصر ردة فعل رئاسة الوزراء غالباً على تكليف النائب العام بتكوين لجنة تحقيقٍ، لن تختلف مخرجاتها عن عشرات اللجان التي سبقتها.
* لن يتبدل شيء، وستمضي بلادنا المكلومة نحو مصيرها الأسود، لتغرق إما عاجلاً أو آجلاً في لُجة حربٍ أهليةٍ طاحنة، سيدفع الحُكام ثمنها قبل المدنيين المنكوبين.
* سيُطوى ملف القتل كأن شيئاً لم يكن، وستتجدد أحزان الجنينة قريباً، بعد أن أكدت أحداث الأمس أن (غفيرها نائم)، بل ميت الجسد والضمير.
* صدق شاعرنا المجيد عاطف خيري حين قال (بلادٌ كلما ابتسمت حط على شفتيها الذباب).
* لهفي على القتلى والجرحى والمشردين، وقلبي على وطني الجريح.
مزمل ابو القاسم – صحيفة اليوم التالي