أحمد يوسف التاي يكتب: صناعة الجهل

ثمة قواسم مشتركة بين الحكام الدكتاتوريين والسلاطين وأهل الحكم الشمولي، وهي أنهم في كل زمان ومكان يريدون شعبًا سهل القياد يساق كالقطيع ، شعبًا مغيبًا وغير مدرك للأشياء من حوله، فاقد الوعي ، ضعيف الذاكرة، وحتى إن رأيت الأنظمة الشمولية تهتم بالتعليم وتتوسع فيه وتعلن ثورته، فإنها تكرس من خلال العملية التعليمية لتخريج أجيال تخدم النظام الشمولي القائم وذلك من خلال نظام تعليمي يعمل على تعطيل وإلغاء العقول وبرمجتها لخدمة أجندة وأهداف النظام، وبالتالي تغبيش الوعي وتغييبه وإضعافه إلى المستوى الذي يسمح بالانقياد والبرمجة على نحو يساعد على بقاء النظام أطول فترة ممكنة..
في مقال سابق أوردت قصة تقول إنه في نهاية العهد الإنجليزي كان هناك أحد النُظَّار وكان رجلاً متنفذاً وقابضاً، كان يعبئ الأهالي ضد تعليم أبنائهم ويصنع الشائعات التي تنفر الآباء من التعليم، وقد وصلت به الصفاقة أن جمع نفراً من المؤثرين في الرأي العام، وطلب منهم أن ينصحوا الناس بعدم إرسال أبنائهم للمدارس حفاظاً على (رجولتهم) وأنه يعلم تماماً أن الطلاب في الداخليات يفعلون المنكرات والفواحش ما ظهر منها وما بطن.. والحكاية كلها أن السيد الناظر يريد مواطنين كالقطيع ويعلم تماماً بفكره (المريض) وذكائه (المنمط) أن انتشار التعليم والمعرفة بين رعاياه سيضع حداً لمجده الذي بناه على قاعدة احتكار الحقيقة كلها، وغذَّاه بجهل الناس والتعتيم وتكميم الأفواه وإشاعة الجهل.. ليس ذلك الناظر وحده بل أن كثيراً من الأنظمة أقامت أمجادها وسلطانها ، ومكنت لأنصارها حتى استأثروا بالموارد والممتلكات بعد استغلال جهل الناس والعمل على محاربة التعليم والمعرفة.. ويمكن أن نذهب أكثر من ذلك، ونُذكِّر بالحرب الشعواء التي قادها رجال الدين في أوروبا حينما كانوا أعظم مكاناً من الحكام- على العلم والتعليم ووسائل المعرفة، وأوروبا المستنيرة التي تبهرنا الآن بكل ما هو جميل في مجال السياسة والحريات والتداول السلمي السلس للسلطة والممارسة الديمقراطية الراشدة وشفافية الحكم لم تصل إلى هذا الإنجاز الكبير إلا بعد أن حاربت (التجهيل) و(التعتيم) واحتكار الحقيقة وتعبئة الناس واقتيادهم إلى نحو ما يريد المتنفذون من رجال الكنيسة لخدمة مصالحهم الخاصة ومنافعهم الذاتية، فلا شك أن إشاعة المعرفة والتنوير ورفع حالة الوعي بين الناس سيكون هو الأساس لأي مشروع نهضوي ينعم فيه الجميع بالعدالة الاجتماعية وتحقيق العدل والمساواة.
أرأيت لو أن الصحافة اتجهت نحو تعزيز الوعي السياسي والاجتماعي لدى المواطن، وحاربت الرذيلة وأعطت مساحة واسعة لمكافحة استغلال البسطاء، وصبت جل تركيزها على التوعية بأساليب الغش والنفاق، ووضعت مهمة خلق رأي عام مستنير وراسخ القناعات في أعلى سلم أولوياتها، أرأيتها لو أنها فعلت كل ذلك بتركيز شديد وانتظمت في حملات توعوية لمحاربة الاستغلال والتجهيل وتغبيش الوعي، أما كان ذلك أكبر خدمة تقدمها للشعوب المقهورة بدلًا عن التطبيل ومسح الجوخ وحرق البخور للحكام..
النخب السياسية بطبيعة الحال سواء أكانت حاكمة أو معارضة تريد رأياً عاماً غير مستنير تقوده كالقطيع لتحقيق غايات وأهداف الساسة، تريده أجوف (تعبيه) بالكلام متى ما تريد وتفرغ شحناته غير المرغوب فيها وقتما شاءت، لذلك لن تعمل النخب على رفع درجة الوعي وخلق رأيٍّ عامٍ مستنير لأن هذا الأمر يتقاطع مع مصالحها، لكن بالقطع ذلك هو الدور المطلوب بشدة من الإعلام وما لم يكن هناك رأي عام مستنير وحالة وعي لن يكون هناك مشروع أمة ولن تكون هناك تنمية ولا استقرارًا ولا بناءً وطنيًا…..الـلهم هذا قسمي في ما أملك..
نبضة أخيرة
ضع نفسك دائماً في الموضع الذي تحب أن يراك فيه الـله، وثق أنه يراك في كل حين.

صحيفة الانتباهة

Exit mobile version