لكي نأتي من الاخر فإن أزمة الحكم والحرب في السودان مصدرها الأساس هو التنوع الإثني في السودان، الحركات التي حملت السلاح ضد الدولة المركزية في السودان كانت تنتمي بشكل واضح وصريح إلى الاثنيات الإفريقية كما في الحركة الشعبية لتحرير السودان جنوب، والحركة الشعبية شمال وحركات دارفور، صحيح يوجد بعض المنتمين إلى هذه الحركات من الاثنية العربية ولكنهم مجرد نخب فوقية ولا يملكون امتدادات جماهيرية داخل هذه الحركات، لذلك يمكن القول أن أساس الحرب وجوهره هو الاحتجاج الاثني ضد سيطرة الاثنية العربية على السلطة والثروة في المركز.
لا اعتقد ان إعادة اسطوانة الامتيازات التاريخية والجغرافية التي مكنت الاثنية العربية من الظهور بمظهر المسيطر على الوطن سوف تجدي في إقناع الطرف الاخر، لذلك سأتجاوزها في هذا المقال وأناقش بصراحة كما هو ديدني في جميع مقالاتي السبب الرئيس الذي لا يناقشه الجميع بشكل مستقل وعملي وصريح وهو الشعور الاثني لدى الاثنيات الإفريقية بالتهميش وبأنهم مواطنين من الدرجة الثانية في السودان. ويجب أن أشير هنا إلى إن هذا الشعور موجود في كل بلاد الدنيا، ففي كل مكان في العالم هناك أقليات تشعر بأنها مضطهدة في وطنها وأنها لا تتمتع بالمواطنة كما يتمتع بها أصحاب الأغلبية المختلفين عنهم عرقيا او دينيا أو لغويا او غير ذلك، وهذا سيسهل من مهمة الاقتناع بأن هذه المشكلة منتشرة وشائعة وليست حكرا على السودان، وهي للاسف من اعقد وأصعب المشاكل التي تواجه البشرية في مشوراها نحو إحقاق العدالة وحقوق الإنسان داخل الدولة الواحدة وداخل العالم أجمع، وليس سرا ان اكثر ما يشغل منظمات الأمم المتحدة وهيئاتها في العالم هو هذا الصراع الذي تعانيه الأقليات عبر العالم.
لكي نقرب الشرح، نأخذ مثالا قريبا لحالتنا، وهو اميركا، لوقت قريب كانت الاثنية الزنجية في امريكا تعاني من الفصل العنصري، كان السود ياكلون في مطاعم منفصلة عن البيض ويركبون في مواصلات ومقاعد منفصلة، ويدرسون في مدارس منفصلة، ولا يتمتعون بالحقوق الطبيعية للمواطنين في بلادهم، وكان هذا محور نشاط القادة السود المشهورين مثل مارتن لوثر كينج ومالكوم اكس وغيرهما الذين سعووا إلى إزالة هذا التهميش وهذه الفوارق بين السود والبيض، ومن المدهش ان السود في أميركا اتبعوا الطرق المدنية في نضالهم ضد العنصرية ولم يحملوا السلاح ولم يشعلوا حربا في امريكا، وأعتقد أن استخدامهم لأسلوب النضال المدني بالتحديد هو الذي قاد إلى انتصارهم الكاسح والى تغيير القوانين برمتها في نهاية الامر واستعادتهم لحقوقهم الكاملة حتى وصل أوباما الاسود في بداية هذه الألفية لمنصب رئيس الولايات المتحدة الامريكية.
السود في أميركا كانوا ينضالون عبر الوسائل المدنية من أجل أن يكونوا احرارا داخل وطنهم الام، لم يفكروا في الانفصال فقد كانوا مؤمنين بأن هذه البلاد بلادهم، لم يفكروا في الحرب ضد البيض فقد كانوا مؤمنين بأن البيض في نهاية الأمر بشر مثلهم وأصحاب حق في هذه البلاد ايضا، وان حكم القانون اذا ساد فإن السود والبيض أخوة، كلهم لآدم وادم من تراب. عكس ما حدث في امريكا هو ما حدث في حالة مع جنوب السودان، منذ اللحظة الأولى اتجه الاخوة الجنوبيون نحو الحرب ولم يسلكوا دروب النضال المدني من داخل السودان كما فعل مارتن لوثر كينج في امريكا، لذلك كان من الصعب أن يحدث تحولا في القوانين والدولة لمصلحة الجنوبيين بالطريقة التي حدثت في امريكا، ونتيجة لذلك أصبحت التحولات تتم عبر اتفاقيات السلام في خارج السودان، وهي للاسف طريقة لم تفلح في الوصول بالوطن إلى الوحدة، فانفصل الجنوب بكامله، ولم تحدث الوحدة كل حدثت في امريكا مع ان الأمريكيين السود عانوا من نظام فصل عنصري حقيقي وبالقانون ورغم ذلك اختاروا الوحدة على الانفصال.
نفس الحرب التي نشبت في الجنوب اندلعت في دارفور، ولا أرى سببا وجيها غير الغضب الاثني في ثنايا الحربين، لذلك اذا كان ثمة حل لازمة هذا البلد الاثنية فهو أحد اثنين تقرير المصير او الفدرالية، تقرير المصير سيمزق البلاد ويحولها لخمس دويلات على الأقل وفي ذلك إضعاف للجميع، ففي عالم يتجه نحو الوحدة، من العار والعيب ان نفكر في التباعد والتشرزم، كما أن السودان ملك لجميع أبناءه وليس حكرا على جهة او اثنية، لذلك يبقى امامنا حل وحيد وهو تطبيق النظام الفيدرالي بطريقة متكاملة، وأعني بالفدرالية ان يقسم السودان إلى أقاليم ومقاطعات فيدرالية يتميز كل إقليم او مقاطعة بالحق في إصدار تشريعات خاصة بالإقليم او المقاطعة، وهكذا سيكون متاحا للاثنيات المختلفة ان تحكم نفسها بنفسها بالقوانين التي تتواءم مع ثقافتها ودينها وتطلعاتها، ولا يصدر لها حكم من المركز ولا يفرض عليها تشريع من المركز.
اقترح في ذلك أن تسمى المناطق التي لم تنشأ فيها الحرب بالاقاليم او الولايات الفدرالية، وهي الإقليم الشمالي، الإقليم الاوسط، الإقليم الشرقي، اقليم كردفان ( ما عدا منطقة جبال النوبة)، مع تمييز المناطق التي عانت من الحرب بتقسيمها إلى مقاطعات فدرالية وهي مقاطعة النيل الأزرق الفيدرالية، مقاطعة جبال النوبة الفيدرالية، مقاطعات دارفور الفدرالية ( تقسم دارفور الى مقاطعتين او ثلاثة حسب التقسيمات الاثنية والثقافية)، هذا بالإضافة إلى تحويل العاصمة الخرطوم إلى مقاطعة فيدرالية. وهكذا سيتكون السودان من أربعة أقاليم فيدرالية وخمسة او ست مقاطعات فيدرالية، في كل إقليم او مقاطعة حكومة ومجلس تشريعي لسن القوانين الخاصة به والتي قد تكون مختلفة تماما عن قوانين الإقليم المجاور، ويحكم السودان عبر حكومة فيدرالية ويكون له جيش واحد ودستور واحد أعلى ويسمى ( جمهورية السودان الفدرالية).
صحيفة التحرير