(1)
على مدار نصف القرن الماضي منذ توقيع اتفاق أديس أدبابا جرى التفاوض والتوقيع على عشرات اتفاقيات السلام لإنهاء حروب السودان السياسية التي تناسلت حتى غشيت معظم أطراف البلاد، بيد أن أياً من هذا الاتفاقيات التي جرى التوصل إليها في ظل أنظمة الحكم المختلفة التي مرت على البلاد خلال هذه الفترة الطويلة، لم تفلح لا في الصمود ولا في تحقيق استدامة السلام المنشود، مع كل الخطب الرنّانة التي ترافق كل واحد منها تقرّظ نجاح كل تفاوض في مخاطبة جذور المعضلة السودانية المزمنة وتتنبأ بأنها ستسهم في وضع حد للحرب وتزهر سلاماً، وكان ذلك ديدن الجميع سواء من أطرافها أو من المجتمع الدولي الداعم لكل منها، وسرعان ما يكتشف الجميع أن كل هذه الوعود تبددت لسبب أو آخر، لتعود مطحنة الحرب تهلك الحرث والنسل، وترجع البلاد القهقرى من جديد في دائرة مفرغة من الصراع غيرالمنتج.
(2)
اقتضى التذكير بحيثيات هذا المشهد غداة التوقيع على إعلان المبادئ بين الحكومة الانتقالية والحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز الحلو، ربما يحسب البعض أن صدر هذا المقال يقصد التبكيت أو يفتقر للياقة السياسية، وفي واقع الأمر لست بصدد الحديث عن مضمون الإعلان أو تناوله بالنقد، فالترحيب بهذه الخطوة مهم من ناحية مبدئية ذلك أنه لا يُعقل تفويت أية فرصة لإسكات البنادق في بلد تمزّقه الانقسامات والصراعات، ولذلك أوردت هذه المقدمة وفاءً لاعتقاد قديم عندي بأن السبب الرئيس في عدم صمود اتفاقيات السلام على كثرتها أنها كانت بطبيعتها جزئية تعقد فيها صفقات ثنائية تنتهي بتسويات لاقتسام السلطة والثروة بين النخب، ويغيب عنها الشمول والإحاطة بالقضية السودانية في كلياتها المختلفة، لتنتح حلولاً في سعة أجندة الوطن، وليست بضيق طموحات القادة السياسيين، ولذلك لم يكتب لأي منها النجاح في تحقيق السلام المستدام مع تغير توازنات القوة، وتحولات الأجندة الذاتية.
(3)
ولذلك السؤال المحوري في شأن إعلان جوبا الأخير، والذي يشكّل تحدياً حاسماً لأطرافه، هل ستتغير منهجية التفاوض فيه لتحقق متطلبات التسوية التاريخية الشاملة للأزمة الوطنية، أم ستسير على الدرب نفسه الذي انتهت إليه اتفاقيات السلام السابقة التي انتهت جميعاً إلى مصير واحد أنها لم تتعد في أفضل حالاتها سقف الأجندة الذاتية على حساب المصالح العامة.
وهذا التحدي على وجه الخصوص معني به القائد عبد العزيز الحلو، فالحكومات المتعاقبة على اختلاف مشاربها ظلت تفضّل إبرام صفقات ثنائية مع الحركات المسلحة لأن ذلك في واقع الأمر يعزّز سلطتها، ولا يكلفها أكثر من ضمان مشاركة محسوبة في كيكة السلطة والثروة للقادمين الجدد بحيث لا تغير من طبيعة السلطة المحتكرة لطبقات حاكمة، تتغير وجوهها وتبقى ممارساتها نفسها حاضرة مع اختلاف الأنظمة، ولذلك أصبحت هي المنتجة بامتياز للأزمة الوطنية بكل تعقيداتها وتحلياتها.
فهل تستطيع الحركة الشعبية بقيادة الحلو في المفاوضات المقبلة كسر هذا الطوق، وتفتح آفاقاً جديدة أمام مرحلة تاريخية جديدة في السودان، وهذا لن يتحقق بدون تغير منهجية التفاوض الجزئية والحلول المعلبة؟، ام تجد نفسها تحت ضغوط لأطراف متعددة، لا سيما خارجية، مضطرة لإعادة اختراع عجلة التسويات المنقوصة بل تبعاتها.
(4)
والعبرة ليست بالتصريحات ولا في بذل الوعود، فقد ظلت مثل هذه المزاعم تردد كثيراً، كان آخرها اتفاق جوبا بين الحكومة والجبهة الثورية، وكشأن محترفي السياسة في تسويق شعارات جذابة تغنّت بتفرد هذا الاتفاق، انتهى بنا الحال بعد ستة أشهر من احتفالات التوقيع وتشكيل حكومة جديدة بموجبه، إلى إعادة النموذج المشوه نفسها، فقد كان الظن أن دخول هذه الحركات سيسهم في إعادة الحياة إلى روح الثورة وفي تصحيح مسار الوضع الانتقالي المعوج، وفي فتح أبوب أمل جديد، فإذا بنا ننتهي بعد دخولها في لعبة اقتسام السلطة والثروة إلى تعزيز استدامة الأزمة، وتصبح جزءاً منها، فلا هي قدمت أطروحات جديدة تسهم في صياغة برنامج جديد قادر على مخاطبة تحديات المرحلة، ومستجيبة لتطلعات المواطنين، ولا هي أسهمت بضخ دماء جديدة في شرايين السلطة الانتقالية المتكلسة، ببساطة تغيرت الوجوه وبقيت الأزمة شاخصة، وانخرط اللاعبون الجدد في اللعبة القديمة ذاتها بمنطق “العمل كالمعتاد”.
والكرة الآن في ملعب الحركة الشعبية بقيادة الحلو، وفي قول أبي الطيب :
عشية أحفى الناس بي من جفوته..
وأهدى الطريقين التي اتجنب.
خالد التيجاني.. صحيفة السوداني