(1)
بعد اختياره رئيساً للوزراء رفض حمدوك استلام قيمة تذاكر السفر من أديس وحجته في ذلك أنه لم يؤدِّ القسم بعد ولهذا لم يستحق المبلغ إلا بعد تسلم مهامه رسمياً، وقتها ذكّرنا الناس باستهلال (ناس الإنقاذ) الحكم في بداية عهدهم من تبسُّط مصطنع وتواضع وبساطة مع العامة، حتى أطلق عليهم إبراهيم شكري
في مصر «صحابة القرن العشرين» فقد كانوا يحملون المواطنين على سياراتهم جيئةً وذهاباً لتخفيف أزمة المواصلات ، وكانت الوجبة التي يتناولونها داخل القصر الجمهوري عبارة عن «ساندوتش» فول، وما لبثوا إلا قليلاً حتى تواروا عن الأنظار وحجبوا أنفسهم عن العامة إلى أن وصلوا النقطة التي
رأوا من «فوقها» جواز قتل ثلث الشعب من أجل الكرسي دون أن تأخذهم رحمةً أو شفقة…
(2)
المهم أن حمدوك عندما جاء للسلطة رفض تذاكر السفر من المال العام وفضّل أن يسافر من حرِّ ماله لأنه لم يؤد القسم بعد، وقتها ذكّرناه ببداية ناس الإنقاذ وتبسطهم المصطنع وعفتهم عن المال العام وكيف أن البشير هاج وماج عندما تناهى إلى علمه وجود جوال سكر بمنزل اسرته وخشي أن يحاسبه
الله عليه يوم القيامة وفقاً للرواية التي ذكرها صلاح كرار، يومذاك طلبنا من الناس الذين كانوا يصوّرون لنا حمدوك نصف نبي ألا ينخدعوا بالبدايات وأن العبرة بالخواتيم، فما لبثنا حتى سمعنا بما تردد من «الرواتب الدولارية» المدعومة من دول أجنبية له ولطاقم مكتبه، ولنا الآن أن نتساءل : أيهما أعظم
تسلم دعم «دولاري» أجنبي مثير للريبة أم قيمة تذاكر تم دفعها عن طيب خاطر وليس وراءها ما وراءها…؟ مجرد سؤال فقط…
(3)
تقول العرب المُلك عقيم، وهي عبارة أول من قالها هارون الرشيد لولده المأمون: «يا بني الملك عقيم ولو نازعتني أنت على الحكم لأخذت الذي فيه عيناك»، ويقولون أيضاً إنَّ للمُلك طبيعة تضع السلطان في قالبها، ويقصدون بذلك طبائع البطش والقهر والاستبداد والقتل والتنكيل إمعاناً في حماية سلطة الملك
وكرسي الحكم، واستحلال المال العام… فمهما تصَنّع الحاكم التواضع والتبسُّط للناس في أول الأمر حملته طبيعة المُلك قسراً إلى الكِبْر والترفُّع والاستعلاء لأن طبائع الملك والسلطان والبطانة من حوله يدفعونه دفعاً لذلك، فيرى في التواضع والتبسُّط ضعفاً يغري الطامعين في عرشه ويُذهب هيبة المُلك، وفي
الاستعلاء والترفع والكِبْر ضرورة لحففظ المكانة والمنزلة التي تليق بالحاكم..
(4)
مهما بدا الحاكم رقيقاً رحيماً وشفيقاً على الرعية نازعته طبيعة المُلك ووضعته في قالبها القاسي المستبد فيتحول إلى وحش كاسر يعتقل ويعذِّب وينكِّل ويقتل دون أن يطرف له جفن ولو اضطر إلى إبادة «ثلث» شعبه فيستسهل إراقة الدماء كما يستسهل الكلام… ومهما بدا صاحب المُلك والسلطان نزيهاً عفيفاً
طاهر اليد والسان نازعته طبيعة المُلك إلى تلطيخ يديه بالمال الحرام والدم الحرام وكل ذلك من أجل حماية السلطة… الدم يُرهب به الخصوم والطامعين في سلطته فيقتل دون تورع والمال يشتري به الولاء… فهذه الطبيعة السلطوية المجرمة تضع الحاكم قسراً في قالب سفك الدماء والأوهام وهواجس حماية
الكرسي بأي وسيلة والتصرف في المال العام كما لو كان قد ورثه عن أبيه…
(5)
التاريخ روى لنا قصصاً لحكام وملوك وسلاطين كانوا في بداية عهدهم يتبسَّطون مع العامة فيأكلون ويشربون معهم، وكذا يفعلون حتى مع خدمهم وجواريهم حتى إذا طغت عليهم طبيعة المُلك العقيم نظروا للعامة من أبراج عاجية وصعّروا خدودهم حتى لخلصائهم بأنفه وكبرياء، وأعملوا سيوفهم في الأصدقاء
والأقارب قبل الأعداء والخصوم، ومن هؤلاء تزدحم ذاكرتي بأسماء ملوك منهم :عبد الرحمن الداخل ومحمد ابن ابي عامر ، والمعتمد بن عباد ، وأبي العباس السفاح وأخيه جعفر من ملوك الأندلس وبني أمية وبني العباس، والأمثلة كثيرة…..
(6)
حُكام «الإنقاذ» السابقين ، وحكام «قحت» الحاليين ليسوا بدعاً من أولئك ، فهل يخرج «القحاتة» من سُنة المُلك العقيم وطبائعة التي تضع «السلطان» في قالبها وإن بدا بسيطاً متواضعاً عفيفاً رحيماً؟ لم ولن يفعلوا بالتأكيد… اللهم هذا قسمي فيما أملك..
نبضة أخيرة:
ضع نفسك دائماً في الموضع الذي تحب أن يراك فيه الله، وثق انه يراك في كل حين.
صحيفة الانتباهة