الرحيل: يوم 19 فبراير قبل عامين ودعنا الفنان محمد وردي إلى مثواه الأخير وبذلك توقف نبض المؤسسه الجميلة.. رحل موسيقار عبقري ومبدع رحيل إنسان جرئ يقول ما يعن له ويدافع عنه.. رحل مغنٍ أطرب حتى الجمادات.. كنت لحسن الحظ قريباً جداً من وردي في سنواته الأخيرة وعرفت عنه عادات لاتتأتى إلا لمثقف رصين.. فهو يقرأ كل يوم كتاب أو أكثر.. لا يتخلى عن هذه العادة الجميلة.. لذلك كانت أفكاره دائماً متجددة وحُره ووثابة
المعلم: تعلمت من وردي الكثير.. فقد دفع بي دفعاً لأكون شاعراً غنائياً محترفاً.. وذلك بصناعة الغناء فأنتجنا أغنية نهر العسل والتي أراهن عليها رغم أنها لا تذاع كثيراً .. كنت أرى في صناعة الأغنية نقصاً في المصداقية.. جعلني وردي اكتشف أن المهم هو الصدق الفني.. وأطلعني على نجاح التجربة مع إسماعيل حسن ومع إسحق الحلنقي فنسبة أغانيهما المصنوعة أكثر من الأغنيات المؤلفه دون تأثيره على النص.. يفرض وردي ديكتاتورية اللحن على الشاعر.. ويشارك في صناعة الفكرة.. بذلك يفرض على الشاعر شكلاً محدداً ويترك له الحرية في المضمون لكنه يقوده بتأليفه لمطلع الأغنية.. صحيح لم استفد كثيراً من هذا الاحتراف حيث لايوجد من نصنع معه أغنية جيدة السبك.
النسابة: لصلتي الحميمة به كثيراً ما طلب مني أصدقاء- صحافيون أطباء ومثقفون- أن أعرفهم به وسرعان ما يتعرف على أصلهم وفصلهم ويناقشهم في أصولهم.. وإلى أي فصيلة ينتمون فهو «نسابة» مدهش خاصة لدي القادمين من شمال السودانية هذه الخاصية لم أجدها إلا عند اثنين، الراحل المقيم الطيب محمد الطيب وخالد الذكر بروفيسور عون الشريف قاسم.
المحبة: صحيح علاقة وردي ببعض شعرائه ليست متصلة وقد تكون عابرة، لكن لديه محبة لايكتمها لعدد منهم.. فهو يحب علي عبد القيوم محبة تتمثل في «رقرقة» الدموع في عينيه.. ويحمل مودة كبيرة جداً للشاعر عمر الدوش.. ويذوب وجداً في محبة محمد المكي إبراهيم.. قِستُ ذلك من أحاديثه عنهم.. وله علاقات واحتفاء كبير بالشاعرين جيلي عبد المنعم وعبد الواحد عبد الله.. محبة الآخر تجلت لي في حديثه الولوف عن هؤلاء الشعراء الأفذاذ.
الرطانة: يحب وردي اللغة النوبية ولي ديوان كبير من تأليفه باللغة النوبية.. وكثيراً حينما يجالس رطاناً يرطنان دون احتفال بغير الناطقين باللغة النوبية التي يحبها بجنون.
الشباب: يحتفي وردي بالشباب إيما احتفاء وعندما قالوا له ينبغي أن لا تحاور إلا رؤساء ومدراء التحرير أو مع مذيعين كبار.. لم يحتف بذلك بل ظلت داره وقلبه مفتوحين حتى للمتدربين والمتدربات.. واتحدى أي صحافي صده وردي أو تعالى عليه.. وقبل أن يغادرنا منح المغنين الشباب طه سليمان وجمال فرفور أغنيات ووعد غيرهم بإهدائهم ألحاناً لكنهم تقاعسوا أو تهيبوا التجربة
المثقف: حتى وفاته كان يطالبني بتجميع شعراء وموسيقيين لعمل ندوة أسبوعية نناقش هموم الأغنية وكيفية النهوض بها.. لكن من اختارهم كان بعضهم بعيداً وبعضهم متخندقاً فلم تنفذ الفكرة التي كان يوصينا بها في إلحاح جسور
أخيراً: رحل وردي فترك فراغاً كبيراً.. افتقدنا موسيقاه العذبة.. افتقدنا الحراك الكبير الذي يحدثه بعد كل حوار صحافي أو إذاعي أو تلفزيوني.. استمعت إلى إفادات كثيرة من موسيقيين عن عبقرية وردي.. فالحديث عنها بجانب إنه تحصيل حاصل فنحن لسنا من المختصين فيه.. استمعوا فقط إلى أغنية «أنا مجنونك» وتعرفوا على الغنائية المهيبه فيها.. وكل أغنياته هي حصص في الشجن والعذوبة.. أما صوت وردي فكانت عبقريته في بساطته لذلك من قلدوه طبق الأصل نجحوا في الشكل ولم ينجحوا في المضمون.. رحم الله المؤسسة الوردية فهي عصية على التكرار.
الصباح..رباح – آخر لحظة
[EMAIL]akhirlahzasd@yahoo.com[/EMAIL]