(1)
استضافت جامعة الخرطوم الأربعاء الماضي لقاء السيد رئيس الوزراء د. عبد الله حمدوك مع طائفة من الشخصيات المهتمة بالشأن العام، دعا له “ملتقى جامعة الخرطوم للبناء الوطني والانتقال الديمقراطي” للتفاكر حول رؤية وأولويات الحكومة الانتقالية في عهدتها الثانية، بين يدي الخلوة الوزارية التي انعقدت خواتيم الأسبوع المنصرم بضاحية سوبا.
ولعل هذا اللقاء،الذي استغرق نحو ثلاث ساعات، لم يجد حظه من إلقاء الضوء عليه بما يعكس مجريات الحوار الذي اتسم بدرجة عالية من الجدية والصراحة والشفافية في تناول التحديات كافة وقصور الأداء الذي واجهه، ولايزال يواجه، الحكم الانتقالي في مستوياته المختلفة، لم يتردد المشاركون في طرح آرائهم بكل وضوح لم يخل من حدة، كما اتسع صدر الدكتور حمدوك للاستماع وتقبل النقد القاسي الذي وجه له شخصياً أحياناً.
(2)
لعل ما دعاني للعودة للكتابة عن هذا اللقاء بعد مرور نحو أسبوع عليه، أن البيان الحكومي الذي صدر في ختام الخلوة الوزارية جاء ملتبساً، مرتبكاً، ومربكا على نحو أهدر فرصة ذهبية لحكومة الانتقال الثانية لإطلاق بداية جديدة ورسم صورة ذهنية مغايرة تعيد تقديمها للرأي العام تستعيد بها ترميم ما وصفته في اللقاء بالهوة التي تزداد اتساعاً بين النخبة الحاكمة والقاعدة الشعبية نتيجة لافتقار الحكومة لاستراتيجية تواصل فعّالة وأكثر قدرة على الحفاظ على “روح الثورة والتغيير”، وإنتاج خطاب عام يلهم إحساساً بمهمة وشوقاً لدور، بما يتجاوز مأزق العلاقة البيروقراطية الراهنة المنشغلة عن مهمتها الأساسية في تحقيق أجندة الانتقال الحقيقيةبمطاردة الأزمات التي تأخذ برقاب بعضها البعض في ظل غياب رؤية جمعية متوافق عليها حول أجندة المرحلة المحورية وأولوياتها، وهو ما يعني بالضرورة العودة لمنصة التأسيس، ويقتضي بالطبع تأسيس فضاءات حوار وتفاعل مؤسسية حقيقية قادرة على جسر الفراغ السياسي والقيادي الراهن، وضمان أوسع نطاق ملكية لأجندة الانتقال.
(3)
لا شك أن العرض الذي قدمه الدكتور حمدوك في اللقاء كان أكثر إفصاحاً ووضوحاً في الرؤية وطرح الأفكار ومخاطبة التحديات الماثلة، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معها، من البيان الرسمي لمخرجات الخلوة الذي افتقر للتماسك وقفز على ضرورة توضيح فلسفة وخلفية الرؤية الكلية لأطروحة “الكتلة الانتقالية الموحدة” التي تشكل عماد مهمة ودور الحكومة الانتقالية الثانية، ومرجعيتها التي حدّدت أجندتها وأولوياتها ومناط مساءلتها.
ولعل هذا هو السبب الذي جعل البيان الحكومي، على أهميته الاستثنائية، يمر مرور الكرام لم تحفل به القاعدة الشعبية العريضة الذي هدف إلى مخاطبتها، كما أنه خلّف انطباعاً سلبياً وسط قطاعات مهمة في أوساط صنّاع الرأي العام الذين لم يجدوا فيه ما يجعله يرقى لما كان منتظراً بأمل من مضمون جديد، ومحتوى أكثر تقدماُ في مخاطبة تحديات الانتقال، ولعل هذه سانحة أخرى تعيد تأكيد الحاجة الملّحة للحكومة من أجل رسم استراتيجية تواصل بصورة علمية ومهنية، ذلك أنها لم تعد تملك ترف تجاهل هذا العامل بالغ الخطورة في تحديد مصيرها.
(4)
ولعل القضية التي كانت أكثر جدلاً في لقاء الجامعة مسألة “المشروع الوطني” الفريضة التي لا تزال غائبة بعد خمسة وستين عاماً من الاستقلال، وسط حالة انقسام مستدام على الصعد كافة، وسيادة حالة استقطاب حاد سياسياً، ومجتمعياً، تغذيها تناقضات ثنائية، ولذلك ظلت تتغير ظاهرياً الأنظمة المتعاقبة، وتفجّرت ثلاث ثورات شعبية، ومع ذلك ظلت البلاد تدور في الحلقة المفرغة ذاتها، عاجزة عن كسر طوق التشرذم والانقسام، ولذلك تعيد إنتاج الأزمة باستمرار بلا أفق لضوء في آخر النفق، فقد ظلت محاولات البحث عن مشروع وطني الباحث عن توافق على الحد الأدنى، أدنى بكثير من السقف المطلوب للخروج من هذا المأزق.
ولذلك يبقى السؤال هل ستكون طرح فكرة “الكتلة الانتقالية الموحدة” المستندة على بناء “أوسع قاعدة اجتماعية وسياسية للتوافق على رؤية وبرنامج شامل للانتقال والالتزام به”ممكنة وواقعية في ظل الانقسامات الراهنة كرافعة لتحقيق أهداف الثورة في ظل الواقع والتحديات الماثلة والمستقبلية؟ هذا ما يحتاج لحوار مجتمعي حقيقي عميق وواسع وجاد يتجاوز مداولات النخب السياسية وينهي احتكارها للحكمة وفصل الخطاب.
خالد التيجاني – صحيفة السوداني