* حملت الأخبار نبأ اعتكاف حكومة حمدوك الجديدة لمدة ثلاثة أيامٍ في أكاديمية جهاز المخابرات العامة، وهي تمثل مبنىً فخيماً، تم تزويده بقاعاتٍ متطورةٍ للاجتماعات والمؤتمرات، وفندقاً من فئة الخمسة نجوم، وملاعب وصالات ومكتبة إلكترونية ضخمة، ومرافق أخرى عديدة، بنيت على ضفاف النيل في ضاحية سوبا بإتقانٍ شديد.
* قيل إن النظام السابق شيدها في الأصل كي تصبح مقراً للجهاز، ثم بدّل رأيه وفضّل تحويلها إلى أكاديمية، تدرّب منسوبي الجهاز، وتمكن العاملين فيه من ترقية إمكاناتهم، وتتيح فرصاً للدراسات العليا حتى للمدنيين، وتستضيف ضيوف البلاد والجهاز في مقرٍ يليق بهم.
* زرتها مع ثلة من الزملاء عقب افتتاحها قبل بضع سنوات، فأعجبتني تجهيزاتها المتقنة، ومبانيها الضخمة الفخمة، ومرافقها المتطورة، وها هي تستضيف رئيس وزراء حكومة الثورة وطاقمه الوزاري، سعياً إلى وضع الخطة التشغيلية للحكومة الجديدة.
* الخطوة مباركة، ومطلوبة لجهة أننا افتقدنا أي ميلٍ إلى التخطيط لدى الحكومة التي سبقتها، إذ اكتفت بالتسيير من غير هدىً، والعمل بلا خطة ولا برنامج، يحدد المنهج والأهداف المراد تحقيقها، ويرتب الأولويات، ويوضح لكل وزارةٍ المطلوب منها على وجه الدقة، فكانت المحصلة ما رأيناه من مردودٍ متواضع، وأداءٍ هزيلٍ، أنتج تدهوراً مريعاً للاقتصاد، وقضى على أغلب الرصيد الجماهيري للسلطة الانتقالية.
* المعسكر معني بتحديد كيفية إدارة وتشغيل مؤسسات الدولة التنفيذية، وليت الحاضنة السياسية للحكومة جارتها وأقامت هي الأخرى معسكراً موازياً، تستهدف به وضع برنامج وطني شامل، يرمي إلى حشد طاقات أهل السودان حول ما ينفع البلاد والعباد، ويسعى إلى تنفيس حالة الاحتقان السياسي التي تعاني منها بلادنا حالياً، بعد أن تفشت فيها الانقسامات، وتعددت الصراعات القبلية والجهوية والعرقية وقبل ذلك السياسية.
* لن يكون بمقدور مجلس شركاء الفترة الانتقالية أن ينجز تلك المهمة منفرداً، لجهة أنه لا يحظى بإجماعٍ حتى بين مكونات الشراكة نفسها، عطفاً على حالة التنازع التي صاحبت تكوينه، وعدم وضوح حدود أمر تكليفه، والضبابية التي سيطرت على الأهداف التي يراد له أن يحققها.
* التشغيل لا يمكن أن يتم بالكفاءة المطلوبة على المستوى التنفيذي ما لم تصحبه رؤية سياسية ناضجة، وحالة إجماع وطني تستبطن تحقيق الحد الأدنى من الاتحاد على الغايات الكبرى، والمصالح العليا للبلاد.
* سيصعب على الحكومة أن تعالج أزمة الاقتصاد مثلاً ما لم يتزامن عملها مع برنامج إصلاح سياسي فعال، فالاقتصاد والسياسة صنوان لا يفترقان، وهما كركبتي بعير، لا يمكن لأي منهما أن تنفصل عن الأخرى، وإلا كبا البعير وتعثّر.
* بلادنا مصابة بمتلازمة عوز سياسي مزعجة، وتعاني حالة انقسام غير مسبوق، دفعت الإسلاميين والشيوعيين للاتحاد على الدعوة إلى إسقاط الحكومة الحالية، كلٌ بدوافعه، فأهل اليسار يرون أنها تمثل وليداً شرعياً لقوى الهبوط الناعم، وأنها متواطئة مع العسكر، وتتبنى برنامجاً اقتصادياً فاشلاً، تم فرضه عليها من الخارج، واستند إلى وصفة الإصلاح الهيكلي لصندوق النقد الدولي.
* أما الإسلاميون فيرون في السلطة الانتقالية كلها عدواً لهم، يرغب في تصفية وجودهم، والتشفي فيهم، ويستغل أجهزة الدولة للتنكيل بهم، وحرمانهم من أبسط حقوقهم الدستورية والقانونية، وبالتالي صار همهم محصوراً في دمغ تلك السلطة بالفشل، والسعي إلى إسقاطها بأي نهج.
* مطلوب من كل القوى السياسية مجتمعةَ أن تتفق وتتعاهد على تنفيذ برنامج (الحد الأدنى) من التوافق السياسي، ونجزم أن قوى الحرية والتغيير ملزمة بابتدار ذلك التوجه، ومعنية بالسعي إلى إنجاحه، كي تضمن نجاح حكومتها في بلوغ شواطئ النجاة، بنهاية الفترة الانتقالية، لذلك دعوناها لإقامة معسكر مماثل، فهل تفعل؟
مزمل ابو القاسم – صحيفة اليوم التالي