رأي ومقالاتمقالات متنوعة

ياسر عرمان يكتب.. الأمير عُثمان دِقْنة.. عاشِق سواكن


(١)

المياه على وشك أن تغمر وادي حلفا بكامل تاريخها ومساجدها وكنائسها؛ وآلاف السنين من التأريخ فوق الأرض والمطمور، والأراضي التي شقها الكبار بعانخي وتهراقا وزكريا بن جرجة وعبد الرحمن النجومي والملوك والكنداكات والمعارك التي دارت على ظهر تلك الأرض والتّصدي للغُزاة والحضارات التي قامت على ضفاف سليل الفراديس وأقدم أنهار العالم وكل شيء يبدأ وينتهي عند النيل في حاكميته الفريدة .

الأمير عثمان دقنة وسواكن، قصة عشق ومحبة وحظ مراوغ ومسيرة جميلة ومحزنة لاسيما في ثلاث مناسبات سأتطرق لها في هذه المقالة.

المناسبة الأولى؛ حينما تم القبض عليه وأسره بعد نهاية الثورة المهدية، وجاء به خصومه الى سواكن كان ذلك على الأرجح في عام 1900 بعد نهايات معارك حافلة خاضها ضد الاستعمار وقد هاجم سواكن مراراً وتكراراً حتى أضحى لسواكن وجهان: وجه للبحر ووجه للأمن يخاف من هجوم الأميرعثمان دقنة الذي هيهات أن ينسى موعده مع سواكن، مسقط رأسه ومحور استراتيجيته العسكرية في شرق السودان عند ذاك الزمان، وقد استولى على كسلا وطوكر وسنكات. وعثمان دقنة في الأسر كان مهاباً وذا سلطان مثل حاله في أيامه الأولى وهو في أكثر لحظات حياته ضعفاً ومع ذلك كان قوياً وسوف نأتي لذلك لاحقاً!.

المناسبة الثانية؛ كان حينما حطّ رحاله في سواكن في حوالي العام 1924 وهو في طريقه إلى الحج، وبعد مضي عدة عقود على معاركه وعلى أسره وسجنه ومع ذلك كان ما يزال في ذاكرة المدينة، كان عبوره إلى الحج مؤثراً وهو يكاد يسدل الستار على حياته، الثرة والعظيمة، وفي المدينة كان له أتباع ومريدون ومحبون.

والمناسبة الثالثة والأخيرة، حينما انقسم الناس إلى فريقين وهم يأخذون رفاته من وادي حلفا على أمل دفنه في سواكن ولم يتم الاتفاق بينهم ودفن في أركويت بالقرب من مكان شيخه طاهر المجذوب أقرب خلق الله إليه ممن ساندوه على مر معاركه.

وحينما زرت قبره في اركويت قبل سنوات، بدا لي أن قبر الأمير عثمان دقنة يهفو إلى سواكن حوله التاريخ لا ورقاً عليه، يجثو كئيباً كلما مرّت به الرّياح وهو بعيد عن مسقط رأسه على الرغم من أن السّودان والشرق كله مسقط لرأسه على مر الزمان والدهور، فهو من يستحق الاحتفاء في كل بقعة من الوطن.

سنأتي إلى هذه المناسبات الثلاث التي تفيض بمعاني الوطنية والمترعة بالحنين والإنسانية والأشواق والحزن النبيل وذكريات الأمس والحضور سمة لعثمان دقنة لا تنتهي حتى وقتنا هذا ويوماً ما سيُعرض فيلم عنه في كل أنحاء العالم وبكل اللغات وسوف يطلق على أهم مراكز الدراسات العسكرية الإستراتيجية في السودان اسم الأمير عثمان دقنة وكم من المحزن أن كل حكومات ما بعد الاستقلال شمولية ومنتخبة لم تعطه الاهتمام الذي يستحقه .

(2)

في حوالي 1843 ولد الأمير عثمان دقنة وفي حوالي 1900 تم أسره وفي حوالي 1924 ذهب إلى الحج مكبلاً بالقيود، وفي 1927 فاضت روحه الطاهرة بعد سنوات طوال وعجاف في سجن وادي حلفا.

في مساء الثلاثين من أغسطس 1963 فتح قبره إيذاناً بنقل رفاته إلى شرق السودان وإلى سواكن ولكن أمنيته في سواكن لم تتم حتى بعد موته، فقد حالت بينه وبينها عقبات لازمته قبل وبعد موته، وحينما هُجّر مواطنو وادي حلفا لم يتوان الأمير عثمان دقنة من الهجرة معهم برفاته، وذهب بعضهم إلى شرق السودان مثلما ذهب هو إلى شرق السودان، ويرجع الفضل في نقل رفاته لمجهودات عظيمة كان وراءها الأستاذ حسن دفع الله الذي فكر في نقل رفاته منذ 1958 وذكر ذلك في مؤلفه حول (تهجير النوبيين) وسانده في ذلك الدكتور طه بعشر أحد مشاهير الأطباء داخل وخارج السودان وأحد المثقفين الديمقراطيين المعروفين من أبناء شرق السودان والذي اتفق معه على نقل الرفات وإن كان ذلك على حسابهم الخاص، فإنهم لن يتركوا الأمير عثمان دقنة لتغمره المياه وبعدها جاءت مبادرة من الإمام الهادي المهدي؛ وتم دعمها بقوة من مجلس بلدية بورتسودان، عبر كل هذه الجهود لم تغمر المياه جثمانه وعاد إلى حيث معاركه الأولى وذكريات طفولته ليعاد دفنه في شرق السودان وحينما زرت قبره شعرت بالرهبة وبالفخر وأنا أقف أمام هذا القائد الكبير وما كان لضميرنا الوطني أن يخلو من أمثال الأستاذ حسن دفع الله وما كان لعثمان أبوبكر دقنة أن يُنسى في أرض يباب.

صحيفة الصيحة