لم يكن أمراً بلا دلالة أن ينظر الأبيقوريون إلى المعرفة بوصفها المُتعة التي لا تُوازيها مُتعة أخرى، واللذة التي تقع عند أعلى سلم اللذات. فهم قدّموها على لذتي الجنس والطعام، وأحلُّوها المرتبة التي تستحقُّها من الاهتمام، واعتبروها الغذاء الذي لا بد منه لإشباع الروح وتلبية مُتطلباتها المُلحَّة. وإذا كان للمعرفة سُبُل وطرائق شتى، تتراوح بين الخبرة الحياتية، والتأمل العميق في العالم، والإفادة من التقنيات المُعاصرة، والتفاعل الخلاق بين الإنسان ومُحيطه؛ فإنّ القراءة تحتل مركز الصدارة بين هذه السُّبُل والوسائل، لأنّها تُمكِّن الإنسان من الإحاطة بالمُنجز الثقافي والأدبي والعلمي السابق على وجوده، والتمتع بالثروة المعرفيَّة الهائلة التي تركها السابقون للاحقين.
يلفت الشاعر اللبناني الفذ، شوقي بزيع في إحدى مقالاته التي جمعها في كتاب صدر عن دار الآداب البيروتية بعنوان (هجرة الكلمات) إلى أنّ الإحصاءات الصادرة عن اليونسكو وسائر المُنظّمات الدوليَّة التي تُعنى بالقراءة والكتابة، تُشير إلى أنّ العرب أمة لا تقرأ! ففي حين ترتفع مُعدّلات القراءة السنوية عند الأمم المُختلفة، فإنّ المُعَدّل ينخفض عند العرب لكي يصبح أقل من ربع كتاب في السنة الواحدة. وإذا تعمقنا أكثر في تلك الدراسة، وجدنا أن مُعظم ما يقرؤه العرب يتعلق بكتب الطبخ والسحر والتنجيم والشعوذة والتسلية العابرة.
حيّرتني هذه الإشارة المَوثوقة التي نقلها شاعر اعتبره من أفذاذ القصيدة العربية المعاصرة الحديثة؛ فشوقي يقف مُنتظراً مرور القصائد التي تشبه الغيوم، وعندما يقبض عليها، فهو يقبض على جسد شفّاف، رقيق غائم، يشبه الهواء. إنه شاعر القصيدة الوجدانية المبحوحة التي تحملها الإيقاعات والتفعيلات على تموجات القلب ونبضاته لتصنع نغمها الآسر والمأسور في آنٍ واحدٍ.
أدعو القارئ لمُشاركتي المُتعة في بعض أشعار شوقي التي عادةً ما أستهل بها يومي في الصباح:
حين أقول غادة
أقصد الماء الذي لا بد منه
أقصد العينيْن والكفيْن
سحر يمامة معصوبة بالقطن
ما لا تستطيع بحيرة أن تدعيه
يوضح بزيع أن الفعل الثلاثي (قرأ) في لسان العرب لا يحال إلى المُطالعة والقراءة وحدها، بل ينفتح على مَعَانٍ ودلالات يجهلها الكثيرون، فـ(قرأ) تأتي أحياناً بمعنى جمع وضمَّ الشئ، وقد سُمِّى القرآن الكريم بهذا الاسم لأنه يجمع السور ويضمها، ومن هنا قوله تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ) الآية (17) سورة القيامة. وإذا قيل عن المرأة بأنها ما (قرأت) جنيناً، فذلك يعني أن رحمها لم ينضم على ولد، وهكذا يصبح للقراءة مَعنى التكون والالتئام واكتمال الخلق أو الصورة، بما يعني أن غياب القراءة مرادف للنقصان والتشتت والنكوص.
ما يلفت نظر الراكب لمترو الأنفاق في مدينة لندن، أنّ كل الركاب يمسكون بكتاب عدا السائق، إنّها عادة أصبحت كشرب القهوة عند الحبش وكالواتساب عند العرب وكالقطيعة عندنا!
ليس من قبيل الصدفة أن يُشار إلى الكتاب بوصفه (المأدبة) التي يقدمها الكاتب لضيوفه على طبق المُكابدة والأرق أو بوصفه (الوليمة) التي تجلب لقارئها المتعة والرضى فيما يتطلّب التحضير لها سنوات من التقصي والتأمل والعذاب اليومي؛ فكل مكتبة تضمها غرف منازلنا وأروقتها هي أشبه ببستان صغير تتنوّع ثماره بتنوع أشجاره، ويوفر لنا سُبُلاً لا تُحصى من الفُضول والمُتعة والافتتان، والألم الذي تُثيره في نفوسنا الكتب المُهملة فوق رفوف مَكتباتنا، التي لم تجد وقتاً كافياً لقراءتها. وحدها القراءة هي التي تحييه وتضم أجزاءه المُتناثرة إلى بعض كما يفعل رحم الأم بالجنين قبل أن يتمثل بشراً سويَّاً أمام الملأ.
صحيفة الصيحة