هو ذاته رئيس الوزراء الأسبق لكندا جان كريتان يتجوّل في مول (يورك ديل). يُقدِّر الاقتصاديون الكنديون مُبيعات هذا المول في اليوم الواحد بملايين الدولارات الكندية، فهو يبيع كل شيء إلا المواقف.
حين قدّمت لكندا، كنت أعرف أن رئيس وزرائها يسمى جان كريتان، وأنه ينتمي للإقليم الفرنسي.
وحين بدأت العمل مراسلاً لراديو أم. بي. سي من كندا، انفتحت شهوتي الإخبارية وتعضّدت علاقتي بالصحف اليومية والمجلات الأسبوعية ورصد نشرات الأخبار من الراديو والتلفزيون، لأنّ ذلك يقع في صميم أكل العيش. قد يندهش القارئ بأنني لم أطالع خبراً لكريتان لأكثر من شهرين حتى شكّكت بأن هذه البلد ليس لديها رئيس!!
وفجأةً أطل الرئيس من شاشات القنوات التلفزيونية مخاطباً المؤتمر الدولي لإزالة الألغام الأرضية الذي انعقد بأتاوا قبل أعوام بحضور كل دول العالم على وجه التقريب، وكانت تلك أول مرة أشاهد فيها الرئيس جان كريتان الذي ظللت أبحث عنه طوال كل هذه الفترة!.
وليس اختفاء كريتان عن الإعلام خجلاً أو توارياً أو لأنه اعتاد الخفاء خشية مُواجهة الجمهور، إنّها فقط أهمية الأخبار الأخرى التي لا علاقة لكريتان بها، أو فلنقل إنّ البلد بلغ شأواً من المؤسسية والنظام بما يجعل أخبار الرئيس أقل أهميةً في خُطُوط الحِراك اليومي الملئ بالأحداث الاِجتماعية الكبيرة والحركة الاقتصادية المَهولة وتَعليقات كُتّاب الأعمدة ومثابرة منظمات المجتمع المدني والاكتشافات العلمية والبحوث الطبية والفضائح المالية وسباق الدّرّاجات ولعبة الهوكي.
ولم أسمعه يُدين أو يشجب أو يعرب عن أمله أو يُبدي الاستياء أو يستقبل وفداً قبلياً أو يُعلن تبرُّعه! رئيس في الخفاء وبلد في العلن وفي الرفاهية والدعة والصيت والتقدُّم وحكم القانون، ولا يُثير اختفاء كريتان عن الإعلام دهشة الكنديين، لأنّه في الواقع ليس مُختفياً، إنه يعمل يومياً ويحضر جلسات البرلمان ويُتابع بدقّة خُطط وبرامج حكومته، لكن الإعلام يُركِّز على مُساعديه الذين يضطلعون بتلك المهام، ولأن الأمور تسير بما هو مرسومٌ لها، اختفى كريتان عن الإعلام لاغياً (الخيل تجقلب والشكر لحماد)!
وقبل سنواتٍ، اعتزل كريتان العمل السياسي بعد أن حكم كندا لعشر سنوات، وظلّ عضواً برلمانياً لأربعين عاماً وتقلّد قبل رئاسته للوزارة عدداً من المناصب الوزارية منذ عهد أستاذه بيير تردو.
وكريتان رجلٌ مرحٌ وصاحب تعليقاتٍ رشيقةٍ ونكتة، وحكيم جداً ولا يجيد اللغة الإنجليزية بتلك الطلاقة التي يحذقها الكنديون، لأنه في الأصل من الناطقين بالفرنسية.
ولكريتان ثوابت، منها تمسُّكه بدور بلاده كراعية للسلام، وفي عهده رسخ هذه الوجهة وقوّاها بعقد مؤتمر نزع الألغام الأرضية الذي وقعت عليه كل دول العالم، وقاده موقفه من الثوابت لخلافاتٍ عميقةٍ مع الولايات المتحدة بسبب الحرب العراقية الأمريكية التي لم تؤيدها كندا، وهذا ما يتشرّف كريتان به ويتّخذه مسكاً لختام حياته السياسية.
هل في مناطقنا مثل هذه السيرة؟.
صحيفة الصيحة