كانت رحلة الأمير عثمان دقنة ومشاركته في قيادة الثورة المهدية في إحدى جوانبها المهمة تجسيداً حياً لروابط الوطنية السودانية، وهذه المقالة مهداة إلى الدكتور طه عثمان بلية مؤسس مؤتمر البجا وشهداء وجرحى مجزرة 29 يناير ببورتسودان، وإلى شابات وشباب شرق السودان دون تحيُّزاتٍ إثنية وقبلية وجغرافية في بحثهم المُضني عن الخبز والحرية والمواطنة بلا تمييز، فما يجمعهم ويجمعنا معاً هو السودانوية والسودان والرحلة الساحرة للأمير عثمان دقنة التي سنتناول جزءًا يسيراً منها.
(1)
إذا ما قُدَّر لكم أن تنظروا في داخل قلب الأمير عثمان أبوبكر دقنة النابض بالوطنية وأحلامها التي لا تموت، والرابط الجأش منذ ميلاده فلا بد أن يتبادر لذهنكم ثمة سؤال عن الحلم الذي يحتويه ذلك القلب الكبير “لأمير الشرق” بل “أمير السودان” و”أيقونته”، من الأرجح أنكم ستجدون في ذلك القلب مدينة سواكن حلمه الذي لم يتحقق، ستجدونها مرسومةٌ بمدادٍ من نورٍ ومحبةٍ في قلبه الراعف بدماء الوطنية وحُبّ الأرض، والنازف بعشق السودان، فالأمير الذي قاتل في كل معارك المهدية غرباً وشرقاً وعلى ضفاف النيل وقد أحرز الإصابة الوحيدة الكبيرة في صفوف العدو في ختام دوري المعارك في كرري عند خور شمبات، وفي معاركه المتصلة من كردفان إلى شرق السودان جاب البلاد مشياً على الأقدام وعلى ظهور الدواب والجمال ولم تكُن لديهِ عربة مكيَّفة وزجاجٌ مُظلّل يحجبه عن الجماهير ومعاناة الراجلين من النساء والشيوخ على طُرُقات البلاد.
كان الأمير عثمان دقنة مُثخناً بطعن القنا وغبار المعارك، وحياته كلها منذ دخول المهدية وحتى فاضت روحه الطاهرة في السجن، سلسلةٌ لا متناهية من المعارك التاريخية، وقد أطلق عليه الإنجليز “ثعبان الماء الزلق” ولم تتمكن آلة حربهم ومخابراتهم من اصطياده حتى اصطادته وشاية “ود علي” والتي خلدها بعبارةٍ سديدةٍ موجعة سارت بها الرُّكبان “يا ود علي أنا اتقبضت علَّك ما تكون بعتني رخيص”، وقد أرسل الأمير “ود علي” ليتدبر له “سُنبُك” يقطع به البحر، فدبَّر له مكيدة بعد أن انحسرت مياه المهدية وسقطت الدولة، وظلّت نار الثورة في قلبه لا تنطفئ، وواصل رحلته في السجن شامخاً كالطود بعد أن نازل الاستعمار وكان الوحيد الذي دمّر تشكيلة “المُربَّع الإنجليزي” أو “تشكيلة الصندوق” وهي تشكيلة عسكرية أعجزت المقاومين في آسيا وأفريقيا وخلدها شاعر الإمبراطورية البريطانية روديارد كبلنج في قصيدته الشهيرة “الفزي وزي = المقاتل البجاوي”: “أنت في الحياةِ مُعدمٌ وجاهل ولكن في الحروب قمة الفِخار.”
كان عثمان دقنة مانديلا زمانه قبل مانديلا بوقتٍ طويل، فقد أمضى سنواتٍ أطول في سجن وادي حلفا مما أمضاه سجناء “جزيرة روبن” في جنوب افريقيا (راجع مقالة: ياسر عرمان : عثمان دقنة يلتقي علي عبد اللطيف ونيسلون مانديلا، 12 يوليو 2016م).
من سجن رشيد ودمياط وحتى سجن وادي حلفا الذي أشارت بعض الروايات أن الأمير عثمان دقنة قد وصله في العام 1908م ومكث فيه مع الأمير علي عبد الكريم حتى نهايات حياته في الحبس الخاص ممنوعاً من لقاء المواطنين، والذي سيرجع إلى كل هذه الرحلة سيجد أن سواكن احتلت موقعاً مركزياً كما احتله السودان في حياته وفي تفكيره، وذلك جوهر هذه المقالة.
حينما أُلقي القبض على الأمير عثمان دقنة بواسطة الضابط الإنجليزي بيرجس وجيء به إلى سواكن زغردت بعض نساء المدينة التي هدد الأمير أمنها وحاصرها مراراً وعندها دوى نحاس “ألارتيقا” وجاءوا من كل فجٍّ عميق، وأجبروا الانجليز على احترام القائد الكبير والمحارب التاريخي في القرن التاسع عشر والذي خلَّد نفسه على مرِّ الزمان.
(2)
أسئلةٌ لا زالت تدور وتحتاج إلى إجابة من المؤرخين السودانيين، لماذا كان عثمان دقنة متميزاً في خططه العسكرية مقارنةً بقادة المهدية الآخرين؟ ولماذا سبق عصره السوداني في التخطيط العسكري؟ وكيف تمكَّن من إنزال خسائر فادحة بالجيش المصري التركي والإنجليزي؟ هل هي طبوغرافيا الشرق وتضاريسه الوعرة؟ وماذا عن خور شمبات وما تسرَّب عن آرائه العسكرية حول إدارة معركة كرري وتحييد المدفعية والأسلحة النارية البريطانية بجرِّهم إلى المعركة داخل المدينة؟ تلك الخطة التي لم يأذن الخليفة بتطبيقها، ولماذا انتقم منه البريطانيون بحبسه لمدةٍ هي الأطول في السجن، بينما أُطلق سراح بقية قادة المهدية العسكريين، واستأنفوا حياتهم مع أُسرِهِم، وأصبح بعضهم من سادات مجتمع أمدرمان والخرطوم، بينما بقي الأمير عثمان دقنة رهين الحبس، لماذا لاحقه البريطانيون حتى الممات؟ هل كان لنشأته في سواكن أثرٌ على تفتُّح ذهنه، وثقافة سواكن المنفتحة على أعالي البحار، لا سيَّما أن قادة المهدية الآخرين أتوا من أماكن مغلقة وثقافاتٍ مُنعزلة نسبياً مقارنةً بسواكن وتنوعها وتعاملها التجاري مع موانئ البحر الأحمر وغيرها، ووجود الأجانب بها، هل أثر ذلك على شخصيته وتكتيكاته العسكرية وانفتاحه على تضاريس ثقافية وإنسانية أوسع؟ جميعها أسئلة تحتاج لإجابة من طلاب دراسات التاريخ والعلوم الإنسانية والمؤرخين السودانيين، وعثمان دقنة لا يزال فناراً عظيماً يُلامس السحاب والسماء.
(3)
القوس لباريها والثورة لصُّناعها من الفقراء، والحرب لحملة سيوفها وفؤوسها منذ رماة الحدق وحتى الأسلحة النارية، والناس العاديون هم وقود الثورة قناديلها وزيتها ونارها التي لا تنطفئ، هم الذين وفروا الشهداء والجرحى والطعام والماء والمعلومات، وحفروا بأظافرهم خنادق الانتصار، وإنْ صمت المؤرخ عن إيراد ذكرهم وأسمائهم أحياناً كثيرة! فإن الثورة كذلك لم تكُن لتنتصر لو لم تُنجب قادةً لا يرمش لهم جفنٌ يوم الوغى.
(4)
ظلت سواكن حلماً يراود أمير الشرق، وعشقٌ عصيٌّ على النسيان وقد حاول مراراً مهاجمة سواكن وتحريرها من المستعمرين، ليس لموقعها التاريخي فحسب ولكن لحنينه الدائم لمرتع الصبا ومسقط الرأس وذكريات أيامه الأولى في الطفولة والتجارة والصعود على درجات سلم الرجولة والفحولة والشجاعة التي هي لصيقةٌ به كحياته.
(5)
كانت سواكن القرنين الثامن والتاسع عشر عامرة بالمباني والمعاني والتجار وعلماء السلطان والجاليات الأجنبية وتجار الرقيق والطبقات الاجتماعية المنفتحة على مرافئ البحار البعيدة والتي تتدثر بالأقمشة المجلوبة من أقاصي الأرض وتستطعم أطعمةً ممزوجة بثقافات الآخرين وذهنها الذي يحوي حكايات الأمكنةِ البعيدة، وقد دقّ أبوابها الرحالة منذ ابن حوقل الذي زارها عام 1000م والمستعمرون الذي شيَّدوا حامياتهم دون إذنٍ من أحد، هم يدركون أهميتها التي تستمدها من البحر الأحمر، وها هي اليوم أيضاً في عين عواصف الصراعات الإقليمية والدولية والأساطيل والسفن الزائرة للبحر الأحمر وساحله السوداني الفريد.
كانت سواكن مضمخةٌ برائحة التوابل والعطر والصندل والحرير تأخذ من الثقافات المشبعةِ بروائح البحر وأصدافه، والمسافات البعيدة، كانت منازلها من القرميد والطوب والجص واللؤلؤ، وبيوتها بُنيت على نحو أكثر من طابق، والمراكب عند المراسي والبحارة العابرون، ونقاشاتهم العابرة التي يورق بعضها من خلفهم ويلتصق بتراب الأرض، وأذهان المارة من سكان المدينة، وسواكن خليط من اللغات والثقافات، تتوسطهم لغاتها الوطنية، اللغة العربية واللغة البداويت، وكان لتجار الرقيق مكانة خاصة، إذ أن المدينة تعتبر منفذاً لتصدير الرقيق، فحتى هذا اليوم توجد قبيلة تسمى “المواليد” نبتت من تلك الحقبة، وتجارة الرقيق كانت مصدراً لتراكم الرأسمال واتساع الطبقة الاجتماعية التي تضم التجار والمغامرين الواردين مع بضائع البحر وخيراته، وشروره أيضاً من مستعمرين وطامعين، وحينما زرتها قبل نحو عشر سنوات، لا زالت آثار الفخامة والمجد ترسم بعض ملامحها كامرأةٍ جميلة هجرتها حيويتها، وذبُلَت من بعد طول جمال مهشمةٌ مثل أعقاب السجائر التي دخّنها مدخنون عابرون وقذفوا بها غير مكترثين وفقدت المدينة رحيقها وانطفأ بريقها، وقد كانت سيدةُ المدائن وتاجٌ على جبينِ الساحل والوطن.
(6)
في هذه المدينة ولد القائد الفذ والوطني الكبير عثمان أبوبكر دقنة، ترجيحاً أنه وُلد في عام 1843م، وانتمى لأسرة الدقناب الشهيرة، وأمه من البشيرياب والمنتمين إلى الهدندوة وسيوفهم المشرئبةُ نحو المجد والتاريخ، وعمل مع أسرته في التجارة بين سواكن وجدة، وكانت تجارة الرقيق هي الأكثر رواجاً، وتشير الروايات أنه تم القبض عليه وحُكِمَ عليه مع بعض أفراد أسرته بالسجن، وصودرت ممتلكاته، وطُرِدَ من سواكن، وكانت تلك هي الحادثة التي غيرت حياته للأبد، وأدخلته إلى بوابة التاريخ والوطن الكبير في مُنازلة ومقاومة الاستعمار، ولقائه بالإمام المهدي لم يكُن لقاءً عابراً، بل كان لقاء الصدفةِ بالضرورةِ، وكان لقاءاً ثورياً مع ثورةٍ عظيمة، فحينما تناهى إلى مسامعه أن الإمام محمد أحمد المهدي قد ذهب إلى كردفان، ذهب هو أيضاً وبايع الإمام المهدي بيعةً لم تنقضي صداماً ونزالاً وأعواماً طويلة من السجن، وليس للإنسان إلَّا ما سعى.
(7)
لاحقاً تحدثت عنه صُحُف الإمبراطورية التي لا تغيب الشمس عنها في قلب لندن وهو في سجنه في وادي حلفا، وطالبت الصُّحُف بالسماح له وتلبية رغبته في الحج وزيارة بيت الله الحرام، وصدى وقفته الجسورة في وادي حلفا وإيمانِهِ بقضيِّتِهِ والشعاع الذي يملأُ جوانحه فاضَ حتى وصل عاصمةَ الضباب “لندن” وأصبح سجالاً بين سياسيَّيها في ذلك الزمان، فيا لعظمة ذلك الإنسان، والذي وإن غيَّبَهُ الموت، لم يزل يُحرِّك ساكناً في بلادنا حتى اليوم عنواناً لروابط الوطنية السودانية، وهو ممن نسج خيوطها مع آخرين عبر الزمن، كم كانت رحلته شاقة وشائكة وجديرة بالتأمُّل، فقد قاد أهل شرق السودان ليلتقوا بمحاربين من غربه وشماله وأجزائه المختلفةِ والمتنوِّعة، وعند حصار الخرطوم كان جنباً إلى جنب وكتفاً بكتف مع قائده الإمام المهدي وود تورشين وود النجومي والعبيد ود بدر والزاكي طمل وحمدان أبوعنجة وكوال أروب وأبوقرجة وبالجموعية عند مُشرع أبوسعد والعطا ود بصول سليل جاويش وصبير في رحلتهم الطويلة التقى بكل هؤلاء وغيرهم قبل وبعد تحرير الخرطوم، لقد كانت لوحة المهدية منسوجةً من تنوّع السودان وقبائله وجغرافيته وإثنياته، وما حصار الخرطوم وغيره من المعارك إلا صورة مأخوذة من جغرافيا الوطن، لقد كانت المهدية معملاً من معاملِ الوطنية الحقَّة رغم كثيرٍ من الممارسات والانتهاكات التي ارتبطت بدولتها، فقد جمعت وحوت في ملحمةٍ وطنية سحنات السودانيين المختلفة والمتنوعة، ووحدت الناس والجغرافيا رغم النواقص التي صاحبتها، والمهدية تشكَّلُ ركناً مهماً من أركان البناء الوطني.
(8)
سندُقّ نحاس وطبول جميع قبائلنا لمُحاربٍ عظيم من القرن التاسع عشر، سنحشد له الطبول وغناء الأمازيغ في شمال الفضاء الحيوي، إلى الزولو في أقصى الجنوب، ومن طبول الأشانتي في غانا، إلى الأرومو شرقاً، سنجلبُ كل غناء الفقراء وسيوفِ عربِ سيناء ولمعانِ نصول وسيوفِ كل شرق السودان بجميع قبائله دونما استثناء.
من المفارقات أن عثمان دقنة الذي أحبّ سواكن لم يُدفن بها وتلكَ قصة أخرى..
ونواصل..
صحيفة الصيحة