رواية للأديب الانجليزي هربرت جورج ويلز.. تحكي عن مرض غريب يصيب بلدة معزولة في وادي عميق بين الجبال.. هذا المرض يتسبب في فقدان البصر.. وتتوارثه الأجيال.. حتى يأتي جيل أعمى تماماً.. ولا يعرف شيئا عن البصر ولا حتى أي مصطلح له علاقة به.. يعيشون معتمدين على الحواس الأخرى كالشم والسمع واللمس.. تستمر الحياة حتى تلقي الايام لهم شخصاً مبصراً.. يحاول أن يحكي لهم عن العيون والنظر.. لكنه يلاقي معارضة شديدة.. من أناس عاشوا حياتهم في الظلام مدة طويلة.. لم يعرفوا ماذا يعني النور والضوء.. في النهاية تغلبوا عليه.. فقد كان واحداً مقابل أجيال بأكملها…الرواية تناقش برمزية.. فكرة العقل الجمعي الذين يحاكم التغيير.. حتى لو كان في صالحه.. وتعكس لنا صورتنا في مرآة الذات حين نكتشف فجأة اننا عشنا حيناً من الدهر.. لم نكن نبصر شيئا..
مقالي السابق الذين تحدثت فيه عن السرقات التي تمت اثناء التظاهرات.. ودعوت من خلاله الى العودة للاخلاق والقيم الرفيعة.. نال نقاشاً واسعاً فتح أكثر من (نفاج ) للضوء.. جعلني أفكر عميقاً.. وأتساءل.. كيف وصلنا الى هذا الدرك الأسفل من الفساد والإفساد ؟.. هل ساعدنا في ذلك من دون قصد ؟.. إم ان التجار والذين يمسكون بخيوط اللعب.. إمعنوا في تضييق الخيط حتى اعتدنا (الخنق) ؟.. الا تلاحظون معي ان دكان الحلة غالباً ما يكون سعره أغلى من المتجر الكبير؟؟.. ذلك ان التاجر يعرف بذكائه انك لن تتجاوزه وترهق نفسك وتذهب الى المتجر البعيد لمجرد فارق جنيهات؟.. الأمر ذاته ينطبق على بائع الخضروات القريب.. تحس أن هناك مخطط لسرقتك كمواطن.. دكان الحلة.. سيد اللبن.. بتاع الخضار.. وان أردت مقاطعتهم.. والذهاب الى السوق.. تخرج لك المواصلات لسانها ساخرة.. قد تضاعفت أكثر من 300%.. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
الحكومة بدورها.. تدفن رأسها في الرمال.. ولا تحارب جشع التجار مباشرة، ببساطة لأنها لا تراقب السوق ولا تفرض أسعاراً ثابتة.. ولا تقرر عقوبات رادعة لكل من يتاجر في قوت الشعب.. بل في المقابل تقرر هي الدخول في منافسة مع التجار.. لكنها كعادة الحكومات.. (نفسها قصير).. تنتهي خيم البيع المخفض سريعاً.. وترجع ريما لعادتها القديمة.. وفي خلال كل هذا الوقت يجلس السود الأسود وهو يضع (رجل على رجل).. بابتسامة واسعة.. في انتظار عودة الناس اليه.. .تحت شعار (رجعنالك)….. اعتدنا السوق الأسود حتى وصل بنا الأمر ان نقرأ في الاسافير من يكتب (عايز غاز سوق أسود ) فتجد أكثر من مائة يردون عليه.. عادي كدا.. صارت هناك قروبات يساعد الناس فيها بعضهم بعضا للهروب من كشة الشرطة.. فيكتب فيها أحدهم.. ان التقاطع الفلاني.. العشاء فيهو يكلف كذا.. وهو يقصد انك يمكنك رشوة بعضهم حتى يسمح لك بالمرور.. عادي.. ولا يؤاخذنا الضمير.. ولا نحس اننا نرتكب مخالفة.. ولا نقترف ذنبا..
نحن جيل نشأ في وادي العميان.. تعودنا قصص الفساد من أعلى الدرجات.. اختلاسات وتحلل وحاويات مخدرات.. تعودنا على جشع تجار الحي.. وتلاعب أصحاب المتاجر.. عشنا في وادي العميان حتى صدقنا ان هذه هي الحياة.. حتى رأينا بأعيننا أولانا وبناتنا يمارسون السرقة في وضح النهار.. أتت هذه الحادثة لتكشف عنا الغطاء الذي أعمانا سنين عددا.. وتدق ناقوس الخطر.. ان يمتد المرض للجيل الجديد.
الصدمة كانت كبيرة.. على الكل.. لكن المفرح في الأمر.. ان الدنيا لا تزال بخير.. فالاخبار تواترت الينا بأن كثيراً من الأهالي أعادوا المسروقات الى التجار.. واعتذروا لهم نيابة عن أولادهم.. وتلقيت شخصياً عدة مراسلات تخطرني ان ذات المدن التي جرت فيها السرقات.. نظم شبابها حملات لاعادة المسروقات وحملات لنظافة المدينة والاسواق.. عندها اطمأن قلبي.. بأن الأمل باق.. وان الشمس قد نجحت في انفاذ أشعتها للوادي الذي عاش عقوداً في الظلام.. وان الطيور قريباً ستعود لأعشاشها.. وان غداً حتماً ستتفتح فيه الزهور.
ناهد قرناص – صحيفة الجريدة