حينما كانت حكومة الفترة الانتقالية تتخلّق في رحم التمحيص والمحاصصات، كانت الأزمات تتفاقم، وتتناسل، لتعم مساحات أوسع من البلاد، وتتفاقم مآسٍ وصلت حد إقدام مواطن على الانتحار لفشله في توفير متطلبات أسرته، وعندما ولدت الحكومة تزامنت مع انفجار البركان في عدد الولايات، ولم تمض سويعات على إعلان الحكومة ومطالبة رئيس الوزراء للشعب بعدم الجنوح للتتريس، إلا وعمّت التظاهرات عواصم ولايات أخرى من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب.
أمس “الثلاثاء”، تواصلت الاحتجاجات ما بين نيالا وبورتسودان، مروراً بالرهد والأبيض والفاشر، تصاحبها مظاهر إنفلات أمني تمثلت في الحرق والنهب والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة، لدرجة أن كثيراً من السياسيين أعادوها لثورة مضادة وتخطيط عميق من أنصار النظام البائد…
تظاهرات الولايات تضع الحكومة أمام تحدٍ كبير، خاصةً وأنّها خرجت في غالبيتها احتجاجاً على انعدام الخبز وارتفاع أسعاره.
أحداث الأبيض
في مدينة الأبيض، سيّر تلاميذ وطلاب المدارس أمس الأول مواكب وتظاهرات حاشدة تجمعت وسط مدينة الأبيض، وندّدوا بانعدام الخبز والمواصلات، وطالبوا بذهاب الوالي وحكومته بعد الفشل في توفير مُعينات الدراسة والخدمات، كان الموكب سلمياً، لكن الشرطة أطلقت البمبان بكثافة لتفريق المتظاهرين، لتندلع تظاهرات في أماكن متفرقة بالمدينة وتصل ميدان الحرية بوسط الأبيض وأضرم المحتجون النيران في بصات تابعة لحكومة الولاية، عندها استغل متفلتون ذلك وقاموا بعمليات نهب وسلب للمحلات التجارية وإشعال النيران بالسوق الكبير لمدينة الأبيض والأسواق الفرعية والطرفية.
يَومٌ غَريبٌ
وكان يوم أمس غريباً على مدينة الأبيض، إذ شهدت شللاً تاماً للحياة خَاصّةً مع إعلان السلطات حالة الطوارئ وحظر التجوال من السادسة مساءً حتى السادسة صباحاً وإغلاق المدارس، فقد توقّفت حركة المواصلات، وتم إغلاق الأسواق مع تفلتات أمنية هُنا وهُناك، ما استدعى خُرُوج المُواطنين ووقوفهم أمام منازلهم والمحال التجارية، يحملون الأسلحة البيضاء حمايةً لأنفسهم ومُمتلكاتهم، فيما تجوب الشرطة شوارع المدينة وتطلق الغاز المسيل للدموع لتفريق التجمعات ومُطاردة المتفلتين الذين يتحيّنون الفرص للنهب والسلب.
الرهد وأم روابة.. تفاقُم الحريق
لم تكن مدينتا الرهد وأم روابة بشمال كردفان بمعزل عن الأحداث، فكما خرجت الأبيض خرجت المدينتان بذات المظهر، فكان السلب والاعتداء على الممتلكات الخاصة سمة وقاسماً مشتركاً في كل الأنحاء، غير أن وتيرة الاعتداءات شهدت زيادة في مدينة الرهد التي تم حرق بنك التضامُن فيها بالكامل، وزاد كيل بعير بقطع الطرق، حيث استغل متفلتون المواكب والتظاهرات لتحقيق أهداف خاصة تصب الوقود على النيران المُشتعلة وقيامها بالاعتداء على المواطنين.
تدخُّلٌ حكوميٌّ
أحداث شمال كردفان، قادت والي الولاية خالد مصطفى لإعلان حالة الطوارئ وحظر التجوال من الساعة السادسة مساءً حتى السادسة صباحاً وإغلاق المدارس وتعليق الدراسة حتى الأحد المُقبل، وتشكيل لجنة تحقيق عليا للأحداث.
وأوضح في تصريح لـ(الصيحة) أنّ الأحداث خلّفت ثلاث إصابات بسيطة، لكنه أقر بحدوث اختناقات بالبمبان لطلاب مدارس، إلا أنه أكد شفاءهم جميعاً، وكشف عن القبض على (69) متهماً ضالعين في أحداث النهب تم التعرف عليهم من خلال فيديوهات وكاميرات وثقّت للحدث، وقال إن الجُناة معروفون بالاسم.
اندلاع أحداث الفاشر
مساء أمس، اندلعت أحداث عنف وتفلتات في مدينة الفاشر بعد احتقان ليومين، على خلفية مقتل أحد المُزارعين يوم الجمعة الماضي وقيام أهله بقيادة قطيع من الإبل يخص المتهمين بقتله إلى الفاشر، ليقوم أصحاب القطيع بمهاجمة مدينة الفاشر ويطلقون الرصاص ويخلصون القطيع لتندلع بعده احتجاجات تعم المدينة، سرعان ما تحوّلت لحملة غضب وتم حرق عدد من المؤسسات الحكومية شملت: مكتب المدير التنفيذي لمحلية الفاشر، ومكتب أرشيف النيابة بالكامل، بجانب إتلاف 13 مكتباً داخل النيابة، وحرق مكتب شؤون الخدمة بمحلية الفاشر، وإتلاف مكتب المراجع القومي، ونهب مكتب ديوان الضرائب، وحرق مكتب تنسيقية لجان المقاومة بالفاشر، فضلاً عن حرق عربة ترحيل تتبع لمكتب تعليم معسكر زمزم، وإتلاف وحرق ونهب بعض المقار التجارية في السوق الكبير، بالإضافة لتهشيم وإتلاف أكثر من 50 عربة خاصّة، وحرق 7 سيارات حكومية داخل المحلية، بينها سيارتان تتبعان للشرطة، ولم تقف أحداث الفاشر على مساء أمس الأول لتشمل أمس، عدداً من المحليات الأخرى أهمها حرق مكاتب محلية كبكابية.
نيالا
وانتقلت حمى الانفلات الأمني إلى مدينة نيالا صباح أمس الثلاثاء، بمُحاولات سلب ونهب، تصدّت لها الشرطة باستخدام الغاز المُسيل للدموع وإطلاق الأعيرة النارية في الهواء.
ولم تكن الأحداث وليدة اللحظة، لكنها بدأت بخروج تظاهرة في المدينة لليوم الرابع على التوالي، احتجاجاً على تردي الأوضاع المعيشية وغلاء أسعار الخبز، قبل أن يُحاول المُحتجون دخول أكبر أسواق المدينة.
ولمنع تكرار ما جرى في مُدن أخرى خلال الأيام الماضية، أغلقت قوات الشرطة كل الطرق المُؤدية إلى السوق، ليُقابل المُحتجون ذلك بإحراق سيارتين تتبعان للشرطة،
وانتشرت وحدات من الشرطة والجيش بشكل مكثف في شوارع المدينة التي شُلّت الحركة بداخلها كلياً، أدت لمواجهات بين الشرطة والمحتجين، خلّفت عدداً من الإصابات المتفاوتة وسط أنباء غير مؤكدة عن سقوط قتيل، ليتخذ والي الولاية ذات الإجراء بإغلاق مدارس الأساس والثانوي بولاية جنوب دارفور، وإعلان حالة الطوارئ بعد تصاعُد الاحتجاجات.
بورتسودان
وشهدت مدينة بورتسودان حاضرة ولاية البحر الأحمر، تظاهرة عارمة صباح أمس وتوجّهت صوب مباني الحكومة، غير أن والي الولاية المهندس عبد الله شنقراي استطاع امتصاص غضب المتظاهرين عندما خرج لمُخاطبتهم، مقراً بمشروعية المُطالبة بالحُقُوق وحرية التعبير، ومشيداً بسلمية التظاهرة وعدم جنوحها للتخريب وفرد مساحة للقاء مع ممثلين من الطلاب والطالبات المُحتجين بحضور ممثل لشرطة مباحث التموين، وتفاكر معهم مُباشرةً ودون تسويف حول المطالب التي قدّموها له وأولها قضية الخبز.
وأوضح شنقراي للمُحتجين، المُلابسات التي صاحبت توقُّف المخابز خلال يوم أمس، مقراً بالخلل الداخلي الذي صاحب قضية الخبز، مُتعهِّداً بحل مشكلة أصحاب المخابز لاستمرار عملها، وتعهّد بحل كافة القضايا خلال الفترة المقبلة ما أدّى لإزالة الاحتقان ولو بصورة مُؤقّتة.
إرباك المشهد
واتّفقت العديد من الآراء حول أن تصاعُد وتيرة الاحتجاجات ومصاحبتها بأحداث عنف وسلب ونهب لم يكن أمراً معهوداً ويُنبئ عن أجندة تعمل وراء حجابٍ، مُستدلين بأن ثورة ديسمبر والتي استمرّت تظاهراتها لأكثر من أربعة أشهر لم تجنح قط لأي مظاهر انفلات أمني أو سلب أو نهب، وأشاروا لتدخُّل أيادي النظام البائد ومناصريه الذين كثّفوا حملات الثورة المُضادة خلال الأشهر الماضية، بغرض إرباك المشهد السياسي خاصة وأن ما تم في الفاشر من حرق لمستندات قانونية في النيابة وديوان المراجع العام وديوان الضرائب ودار لجان المقاومة، تشير بجلاء لجهات تريد التخلُّص من مستندات ربما تكشف عن فساد سابق.
وأكد والي شمال كردفان خالد مصطفى في حديثه لـ(الصيحة) أن أحداث الولاية وعمليات السلب والنهب في الأبيض والرهد وأم روابة مُدبّرة من قِبل جهات حرّكت الشارع بهدف خلق البلبلة.
الخرطوم ـ محجوب عثمان
صحيفة الصيحة