السياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة، ومن المعلوم أن إصلاح الوضع الاقتصادي مرهون بالاستقرار السياسي بالبلاد، وانطلاق ثورة ديسمبر المجيدة كانت أولى شرارتها تدهور الوضع الاقتصادي خلال المرحلة الماضية، وكانت أبرز ملامحه الأزمات المعيشية وإهمال كامل للقطاعات الإنتاجية، إذ لم تستطع الحكومة السابقة تسخير الموارد الطبيعية الهائلة في البلاد ما نتج عنه بروز عدد من المعوقات لعبت دوراً في انفجار الشارع السوداني، وعقب الثورة عاش المواطنون آمالاً عريضة بأن تفلح الحكومة الجديدة في معالجة ما أفسدته الحكومة السابقة بتوفير سبل العيش الكريم للمواطن وأن تشهد البلاد طفرة نوعية وحقيقية من خلال دخول الاستثمارات الأجنبية والعربية بما أن اسم السودان تمت إزالته من القائمة السوداء ورفع الحصار الاقتصادي المفروض عليه منذ عقود.
وكانت الآمال تبنى شاهقة بأن تشهد الأوضاع تحولات كبيرة بتدفق المنح والقروض والهبات من كبرى بيوتات المال والصناديق الدولية، ولكن يبدو أن المجتمع الدولي يسير نحو السودان بخطى متثاقلة، ولم يكن التفاعل بالصورة المطلوبة، فما هي الأسباب الحقيقية وراء ذلك؟ ولماذا تقاعست الشركات العالمية والمستثمرون عن الدخول للسودان؟ وهل عدم الاستقرار في الأوضاع السياسية سبب ذلك؟
تلك الأسئلة طرحناها على عدد من الخبراء في الشأن الاقتصادي لإيجاد الإجابة المناسبة، فإلى إفاداتهم.
تعديل اللوائح
أكد مدير عام سوق الخرطوم للأوراق المالية د. خالد علي الفويل، أن المجتمع الدولي لم يتقاعس عن دعم السودان وإنما هي مسائل إجرائية، وتعديل للقوانين لتلك الدول التي كانت مقاطعة للبلاد والتنسيق مع المؤسسات المالية من أجل التعاون مع السودان وفقًا للإجراءات المطلوبة.
وقال خالد: هناك مؤتمرات أعدت من أجل دعم السودان منها مؤتمر باريس وبرلين ومؤتمر الرياض، بجانب الزيارات من عدة وفود خارجية عقب قرار رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب، مشيراً إلى أن هناك مطلوبات لابد من إنجازها والتأكد منها على أرض الواقع تتعلق بالتدفقات النقدية غير الشرعية وغسل الأموال وتمويل الإرهاب وتعديل اللوائح الداخلية والقوانين لموءامة ومواكبة التشريعات العالمية والتي بموجبها وضع اسم السودان في القائمة السوداء، ولفت إلى الحاجة إلى زيارات لوفود تقييم للأوضاع الداخلية للمؤسسات المالية وهل نحن مؤهلون للاندماج في المنظومة العالمية أم لا؟
وقال: (تلك الشركات والمؤسسات المالية لن تدخل إلا في حال اطمأنت)، ونحن لن ندخل بالقول إلى المجتمع الدولي، وهناك أسس وضوابط والتزامات.
بشريات ولكن!
وأوضح أن هناك شركات من فرنسا دخلت في استثمارات في مشروع الجزيرة، واثنان من أكبر الشركات الأميركية دخلت السودان في مجال التقنية والكهرباء والزراعة، إضافة إلى زيارة وزير الخزانة الأميركي برفقة وفد من رجال الأعمال للبلاد.
مضيفًا أن التحويلات إلى أميركا أصبحت جاهزة وسارية مما يعد تدفقاً للاستثمارات ودخول رؤوس أموال خارجية تدعم بنيات الاقتصاد السوداني.
مشيراً إلى جاهزية التحويلات المباشرة إلى أميركا والتي تمهد لتعاون البنك الدولي والصندوق الدولي مع السودان.
وبشّر بأن الحكومة الجديدة التي يجري تشكيلها سوف تأتي برؤية موحدة وإصلاح شامل في كافة القوانين.
تخوّف واضح
وفي المسار نفسه، أكد الخبير الاقتصادي عز الدين إبراهيم أن خطوة الاندماج في المجتمع الدولي واطمئنانه باستقرار الأوضاع في البلاد لن يتأتى مباشرة، ولن يندفع المجتمع الدولي بصورة فجائية نحو السودان بمجرد رفع اسمه من القائمة السوداء.
وشدّد على أن كبرى الشركات العالمية لديها حسابات وميزانيات ولن تدخل في أي استثمارات إلا بدراسة متأنية تعقبها زيارات وفود جيئة وذهاباً لإلقاء نظرة شاملة على السوق السوداني. وألمح إلى وجود تخوف واضح من الأوضاع الداخلية بالنظر إلى الأرقام الكلية وما ينشر في وسائل الإعلام، وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي عامل مهم لفرار رأس المال وعند الشعور بأن هناك (قلاقل) فلن يأتي أي مستثمر أجنبي للسودان.
وأشار إلى وجود اسم السودان ضمن أكثر 10 دول في العالم في قائمة الفساد ووصف الأمر بأنه إشانة للسمعة مما يؤدي إلى تخوف المستثمرين والإحجام عن الاستثمار.
وقطع بأن الاقتصاد السوداني يواجه انكماشاً واضحاً في الميزانية لعامين متتاليين، ومن ثم يبني عليه المجتمع الدولي حساباته، مما يحرم السودان أشياء إيجابية كانت ستصب في مصلحته عقب رفع اسمه من اللائحة السوداء.
وعاد ليقول: مع ذلك هناك عدة أشياء إيجابية حدثت مثل زيارات كبار المسؤولين من أميركا وأوروبا، وزيارة الرئيس الألماني، وهي مؤشرات تدل على أن دول الغرب مطمئنة للتحولات التي حدثت في السودان.
وقال إن اميركا تسعى للدخول بقوة للبلاد لإزاحة الصين وروسيا من المشهد السوداني.
مظاهر مخلة
واستنكر عز الدين مظاهر الاختلافات الداخلية والمظاهرات وإغلاق الكباري والطرق والتفلتات الأمنية في دارفور والتي جزم بآثارها السالبة على صورة البلاد عالمياً.
وقال إن الاستقرار السياسي والاقتصادي مطلوب ومهم لضمان دخول الاستثمارات الأجنبية وتقبل المجتمع الدولي للسودان
وطالب الحكومة بإعطاء أولوية لتحقيق الاستقرار بصفته من القضايا الحيوية وقطع بأن النوايا الطيبة ليست كافية، ولابد من تهيئة الأجواء.
ترتيب الأوضاع
وقال إن المجتمع الدولي ما زال في مرحلة دراسة متأنية وترقّب لمآلات الأوضاع في السودان مع العلم بأن الحكومة حتى الآن لم تكتمل هياكل الحكم فيها، منها المجلس التشريعي والمحكمة الدستورية باعتبار أن المستثمرين يخافون الدخول في استثمارات في بلد أوضاعه غير مستقرة وكافة الشركات والبنوك العالمية لديها إدارات مخاطر تدرس المخاطر في البلدان التي تريد الاستثمار فيها، لذا ترتيب الأوضاع على المستوى الداخلي من أولويات الحكومة المقبلة لتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي.
وقال الخبير المصرفي طه حسين، إن عدم الاستقرار السياسي يؤثر بلا شك على الاستقرار الاقتصادي والمشروعات.
وأبان أن المستثمر قطعًا لن يضخ أي أموال إلا في حالة التأكد من استقرار الأوضاع.
وجزم بأن هناك مشكلات ما تزال قائمة في البلاد على رأسها التحويلات البنكية وارتفاع معدلات التضخم والارتفاع المستمر في الأسعار وعدم وجود تكلفة محددة للمشروعات، وأيضاً عدم استقرار سعر الصرف إلى مبالغ خرافية، وكل تلك الأشياء محفزات للاستثمار والمستثمرين.
وأكد أن التجارب السابقة لها أثر سلبي، وتأخذ زمناً طويلًا لتغيير الصورة في إذهان المستثمرين القادمين للاستثمار في الجانب التجاري.
وربط الحصول على المنح والهبات في موازنة 2021م والمقدرة بـ932 ملياراً بحسب وزارة المالية بوضع برامج واضحة وقطع بان انعدام الخطة والسياسات يؤثر سلباً على الاعتمادات
وعاب على الدولة إصدار قرارات متضاربة حول إيقاف صادر الفول السوداني وصادر الذهب، مما يعني أن هناك اضطراباً واضحاً في السياسات المالية والنقدية للدولة.
نفس المحطة
أحد المتابعين للشأن الاقتصادي ــ تحفظ على ذكر اسمه ـ قال لـ(الصيحة)، إن الاقتصاد السوداني ما زال يقف في النقطة السابقة، فمشهد اصطفاف المواطنين أمام كاونترات البنوك للحصول على النقود، وصعوبة التحويلات المالية نتيجة عدم الاندماج في النظام المالي العالمي ما تزال قائمة، إضف إلى ذلك شح الوقود، إضافة لانعدام وندرة الخبز وارتفاع وتباين أسعاره في المخابز، ولا ننسى ارتفاع سعر النقد الأجنبي بصورة يومية، حيث تجاوز سعر الدولار الـ400 جنيه دون حسيب أو رقيب، والحكومة ماتزال في تشاكسها حول الكراسي والمناصب وغير متحسبة لمآلات الأوضاع الاقتصادية في البلاد، والتي تسير نحو الهاوية، هذا الأمر يستدعي الوقوف عنده، وعلى الحكومة الإسراع بمعالجة الوضع بالبلاد ولو جزءاً يسيراً. وذكر أن مرحلة ما بعد الثورة تتطلب جهوداً حثيثة من الحكومة في المجال الاقتصادي واهمية السعي لتوفير متطلبات البيئة الاستثمارية، وفي المقابل السعي لمعالجة مشاكل الاقتصاد عبر حلول واضحة وخطة منهجية وليس خبط عشواء من إصدار سياسات جوفاء لا معنى لها.
ودعا إلى ضرورة إعادة الثقة في الجهاز المصرفي بجانب توفير الاحتياجات الضرورية للمواطنين والسعي لدفع ديون السودان الخارجية وتوفير البيئة المناسبة للاستثمار وتعديل القوانين لجذب المستثمرين في الخارج ووضع الحوافز التشجيعية للمغتربين لضمان تحويلاتهم عبر الجهاز المصرفي الرسمي للدولة.
ونادى بأهمية محاربة السوق السوداء بسياسات نقدية ومالية وليس بالحملات الامنية التي لا تعمل على تراجع الدولار وإنما تزيده وبالًا.
الخرطوم: رشا التوم
صحيفة الصيحة