سرايات الجزيرة

(1 )
عندما دخلت الشركة الإنجليزية في عقد شراكة لإنتاج القطن في مشروع الجزيرة مع حكومة السودان الإنجليزية في الربع الأول من القرن السابق، كان لابد من ان تسند الشركة إدارة الغيط (المفتشون) للأجانب لأن السودانيين يومها لم يكونوا مؤهلين لذلك، فكلية غردون التذكارية مازالت في بداياتها، ففكرت الشركة في استجلاب هنود ثم صرفت النظر عنهم وقررت الاعتماد على خواجات بريطانيين (عيونهم خضر) لاسيما وأن الحرب العالمية كانت قد خلفت جيوشا من العطالة في بريطانيا لذلك كان معظمهم من بقايا الجيش البريطاني لا يعرفون كوع الزراعة من بوعها، فكان كل المطلوب منهم تنفيذ الأوامر الصادرة لهم من بركات حيث رئاسة المشروع.
(2 )
كان من الطبيعي ومن كل النواحي العملية والثقافية ان يكون للمفتشين الخواجات سكن منفصل عن الأهالي وبعيدين عن قرى الجزيرة المتخلفة تخلفا مريعا بالنسبة لهم، وكان من الضروري ان يكون ذلك السكن مهيأ لهم بصورة مقبولة، فكانت المباني الفخمة والسرايات الغناء التي أشرف على إنشائها الخواجات أنفسهم، بينما كانت كل العمالة اليدوية من الصعايدة والسودانيين وكان عملا شاقا ومرهقا وبأجر زهيد. ومع ذلك كانت الجزيرة لا بل كل السودان يعتبر منطقة شدة بالنسبة للخواجات فهذه السرايات بالنسبة لما تركوه في بلادهم لا تسوى شيئا .
(3 )
بعد انتهاء عقد الشركة في 1950 تقرر تأميم المشروع ولكن كانت هناك فكرة بان يتحول المفتشون الإنجليز لخدمة حكومة السودان بدلا من خدمة الشركة وقد تفاوض السيد اسماعيل الأزهري شخصيا وقبل أن يصبح رئيسا للوزراء مع آرثر جيستكل آخر محافظ انجليزي لمشروع الجزيرة في هذا الموضوع وطلب منه البقاء في بركات حتى بعد الاستقلال، وقد وافق جيستكل على الفكرة لا سيما وأنه كان قد كون خطة لتغيير وتطوير المشروع ولكنه لحظ ان رواد الحركة الوطنية السودانية غير مهتمين بالتعمير بل بالتحريرفقط، الأمر الذي لن يمكنه من تنفيذ تلك الخطة.
فكتب خطابا مؤثرا للأزهري يعتذر فيه عن البقاء في السودان وبلباقة حاول أن يلفت نظر الأزهري للتفريق بين السياسة والزراعة واصفا مشروع الجزيرة بأنه كنز لم يستفد منه السودانيون قبل الاستقلال ولكنهم يمكن أن يستفيدوا منه فائدة عظمى بعد الاستقلال اذا ما قاموا بالتغيير الذي يتناسب والوضع الجديد، فالحكومة الوطنية مطلوباتها مختلفة عن مطلوبات الشركة وعن مطلوبات الحكومة الاستعمارية.
(4)
تقرر سودنة كل وظائف المشروع لا سيما وان كلية غردون التي تحولت الى كلية الخرطوم الجامعية ثم نشأت المدارس الثانوية (وادي سيدنا وحنتوب وخورطقت) كل هذا ضخ عددا وافرا من المتعلمين السودانيين الذين يمكن أن يقوموا بأعمال الإدارة والحسابات ويومها لم يفكر أحد بان يكون المفتشون في المشروع زراعيين، فكان أول محافظ سوداني السيد مكي عباس مدرسا وعلى ذلك قس . كان من الطبيعي أن يسكن المفتشون السودانيون في السرايات التي أخلاها الخواجات لأنهم سوف يقومون بنفس عملهم وطبيعي ان لا يفكر أحد في إسكانهم في قرى المزارعين لدواعي عملية كثيرة ومتداخلة ولعل من بينها أن قرى المزارعين يومها مازالت على تخلفها الذي كان سائدا قبل المشروع، ولكن مشكلة المفتش السوداني أنه لم يرث من الخواجة المسكن فقط، إنما ورث منه المشاعر تجاه المزارع كما قال الدكتور توني بارنيت.
وللحديث بقية إلى أن نصل لما يجري من عمل لإعادة تأهيل تلك السرايات إن شاء الله.

عبد اللطيف البوني – صحيفة السوداني

Exit mobile version