ما حدث الأسبوع الماضي في عديد من مناطق السودان من مؤشرات حراك يشي بأنه من فلول النظام السابق تحت ستار القبائلية في شرق السودان ووسطه، والسخط العام من الارتفاع الجنوني للأسعار، وبعض التظاهرات في الخرطوم، كل تلك التحركات رسائل خطيرة في بريد حكومة قوى الحرية والتغيير وتحالفها الحاكم. وهي رسائل ستعني الكثير جداً، وربما كلفت “قحت” حياتها، والكثير جداً، لو تفاقمت وتم استغلالها على نحو منظم من فلول للنظام السابق ما زال بعضها يمسك بكثير من المواقع والأموال إلى جانب داعميهم من خارج السودان.
اقتحام مقر لجنة إزالة التمكين في بورتسودان
يمكن القول إن التقييم الأولي لتوجه “قحت” القادم سيعكسه محتوى القائمة الوزارية التي ستدفع بها في الحكومة الجديدة يوم 4 فبراير (التي ستشارك فيها لأول مرة حركات اتفاق جوبا)، وكذلك في قدرة “مجلس شركاء المرحلة الانتقالية” على إنفاذ وعود مواقيت المصفوفة التي أعلن عنها يوم 28 يناير (كانون الثاني) الحالي، والتي تقضي بأن يتم إعلان البرنامج الحكومي للوزارة الجديدة، الأحد 31 يناير (كانون الثاني) الحالي، في حين سيتم استكمال تشكيل مجلسي السيادة والوزراء في يوم 4 فبراير (شباط) المقبل، فتعيين الولاة في يوم 15 من الشهر ذاته، وصولاً إلى تكوين المجلس التشريعي والمفوضيات يوم 25 فبراير (شباط) 2021.
وحتى ذلك الوقت الذي يبدو قريباً جداً وحساساً لجهة عدم التعاون في إعلان القوائم في مواعيدها المضروبة، كما حدث ذلك مراراً، تتلاحق الأحداث التي أشرنا إليها سابقاً في تحدٍ واضح لإرادة قوي الحرية والتغيير التي تضع نفسها اليوم أمام مسؤولية لا يمكن للشعب السوداني أن يتسامح مع أي تفريط فيها، وهو يبصر بعض الظواهر الخطيرة التي يتحرك عبرها فلول النظام السابق.
فقبل أيام ظهر تسجيل صوتي لقيادي سابق في نظام البشير (علي كرتي) تحت اسم الأمين العام للحركة الإسلامية، بدا فيه التحريض واضحاً على حكومة قوي الحرية والتغيير، وحديث عن شرق السودان، ومن ثم تزامن مع هذا التسجيل بعض الأحداث والتحركات لفلول النظام القديم تحت ستار القبيلة، مثل الدخول عنوة إلى مقر لجنة إزالة التمكين الفرعية بمدينة بورتسودان، من قبل معترضين على قرار صدر بتجميد أرصدة الوالي السابق للبحر الأحمر، وآخر رئيس وزراء لنظام البشير قبل سقوطه (محمد طاهر إيلا) وبعض رموز نظام البشير في البحر الأحمر، وتم اقتحام المقر بطريقة غير لائقة وسط هتافات مناصرة لوالي نظام البشير السابق (محمد طاهر إيلا) وفوضى شهدها الجميع في طريقة الخطاب وأسلوب التعامل مع مقرر لجنة إزالة التمكين بالبحر الأحمر المحامي مجدي سند، والذي فتح بدوره بلاغات نيابية ضد المتهجمين على مقر اللجنة.
وعلى الرغم من استنكار لجان المقاومة في مدينة بورتسودان لهذا التصرف الفوضوي، فإن ما حدث فيها ضد لجنة إزالة التمكين بطريقة التعدي يعتبر سابقة خطيرة، ومؤشر على تداعيات ربما تعكس اضطراباً في المدينة، لا سيما أن فلول النظام استخدموا القبيلة واجهة لتحركاتهم، فأطلت علينا مجدداً تصريحات ناظر قبيلة الهدندوة محمد محمد الأمين ترك بذات النبرة الإقصائية التي ظل يستخدمها عبر حراك المجلس الأعلى لنظارات البجا ضد مكونات محلية في شرق السودان.
وصرح الناظر ترك “نحن ولجنة التمكين لا يحملنا بلد واحد”، في إشارة إلى المطالبة من طرفه بإقالة لجنة التمكين التي تعدت على رموز شرق السودان وأحد أبناء قبيلته (يقصد محمد طاهر إيلا) الذي قال عنه “إيلا رمزنا ونحن نقف معه”.
ومن ثم تساءل الناظر ترك في إقصاء صريح يطعن في أحقية مواطن سوداني (المحامي مجدي سند) بطريقة طالما حذرنا منها، وهي طريقة تكمن خطورتها في أن الناظر يخاطب أتباعه عن حقوقهم في المدينة على طريقة الحيازة والامتلاك القبلي للمدينة.
وقال “من هو مجدي؟ وماذا يملك في هذه المدينة؟”، وللأسف لم نشهد أي تصرف من طرف النيابة في تحريك البلاغات التي فتحها مقرر لجنة إزالة التمكين بالبحر الأحمر (مجدي سند) من قبل النائب العام، كما أن لم نشهد أي تصريحات لوالي الولاية المهندس عبد الله شنقراي بخصوص إدانة ما قام به مقتحمو مبنى لجنة إزالة التمكين.
وفي تقديرنا أن هذه التحركات هي تحركات لفلول النظام البائد تحت غطاء القبيلة، وليست تمثيلاً لغالبية قبائل البحر الأحمر التي لا يقف ناظراها (ناظر الأمرار الحكيم البجاوي علي محمود)، وناظر الحباب (كنتيباي حامد محمود) إلى جانب وكيل “ناظر بني عامر محمد علي محمود” هذا الموقف من لجنة إزالة التمكين.
هذا التطور الخطير من جانب فلول نظام البشير تحت غطاء القبيلة عبر ناظر أكبر قبيلة في شرق السودان، لا يمكن فصله عن مجمل الأحداث والتطورات الأمنية التي حدثت في شرق السودان خلال السنتين الماضيتين، إذ إنه يحدث تحت سمع وبصر اللجنة الأمنية في البحر الأحمر، وكذلك تحت سمع وبصر والي ولاية البحر الأحمر، ما يعني أن إمكانية تطور هذا الوضع في الأيام المقبلة سيعكس استقطاباً خطيراً في شرق السودان (لا سيما أنه قد حدث اقتحام آخر لمقر لجنة إزالة التمكين بمدينة القضارف)، كما في مدينة سنار، ولا نستبعد أن يحدث ذلك لاحقاً في مدينة كسلا. بالتالي في ظل غياب أي تهاون وتحرك من المركز لاحتواء الوضع وفرض هيبة الدولة فإن الأمر سيكون مرشحاً لما هو أسوأ من ذلك. كما أن على لجان المقاومة في المدينة عدم الاكتفاء بمجرد بيان إدانة للحدث الخطير لأن أي تهاون في محاصرته بتحريك الشارع الثوري ستكون له عواقب غير حميدة في مصير الثورة شرق السودان.
لقد كان واضحاً في تصريحات علي كرتي الصوتية، الاهتمام بشرق السودان لأنه يدرك أن تحريك الأحداث هناك هو الأسهل عبر استخدام القبيلة وعصبياتها.
لذا من الأهمية بمكان أن يطور ثوار شرق السودان عبر لجان المقاومة حراكاً واعتصامات مثل التي تحدث الآن في الجنينة من أجل لفت الأنظار إلى خطورة الأوضاع التي تتحرك فيها رمال الشرق من أجل عودة مستحيلة لفلول النظام، ولكنها إذا تطورت عبر تحريك القبائل ستكون مكلفة جداً للاستقرار في شرق السودان. فلجنة إزالة التمكين إحدى واجهات الثورة، ولا يمكن أن يحدث لمقرها مثل هذا الاقتحام ويتم الجهر في مكاتبها بشعارات مؤيدة لرموز النظام البائد، ومن ثم يمر الأمر هكذا بلا ردود فعل قوية من شعب شرق السودان والثوار ولجان المقاومة.
إن ما يحدث في شرق السودان عبر خطابات بعض رموز المجلس الأعلى لنظارات البجا وخطابه الانعزالي الإقصائي (الذي كنا نحذر منه من قبل في نفي حق مواطنية مكون من مكونات شرق السودان: بني عامر والحباب)، ظهر اليوم جلياً بحق مواطن سوداني بالتشكيك في أحقيته في أن يكون ذا منصب مهم (مقرر لجنة إزالة التمكين) في البحر الأحمر، ونفي تلك الأحقية فقط بوصفه ليس منتمياً لقبيلة من قبائل البجا!
وظهر هذا الخطاب بنفي أحقية تمثيل مجدي سند كمقرر للجنة إزالة التمكين بوصفه من غير قبائل شرق السودان الأصليين من ذات الناظر الذي كان يقود خطاباً إقصائياً ضد ذلك المكون المحلي في شرق السودان!
للأسف، حتى الآن هناك في شرق السودان من لا يريد أن يدرك أن مثل هذه الخطابات الانعزالية لقادة وفلول المؤتمر الوطني، عبر بعض القيادات القبلية، هي شكل من أشكال الممارسات الخطيرة والمهددة لتماسك النسيج الاجتماعي والوطني من ناحية، وهي كذلك من الممارسات المخالفة لأسس دولة المواطنة والقيم التي نادت بها الثورة في الحرية والسلام والعدالة والكرامة.
ولعله من المؤسف كذلك القول إنه في حين تشهد هذه المرحلة تطوراً دولياً وأميركياً مهماً لصالح السودان ولصالح دعم المدنيين في المرحلة الانتقالية، فإن قوى الحرية والتغيير للأسف تبدو هي الآن الأبعد عن التقاط روح ومناخ هذه اللحظة الأميركية والدولية المواتية لدعم الانتقال الديمقراطي في المرحلة الانتقالية، عبر ممارساتها القاصرة عن التعالي إلى أفق الوطن في هذه اللحظة الحرجة من عمر السودان، وبما عكسته “قحت” من ضعف واضح في إدارة السنتين الماضيتين من المرحلة الانتقالية.
فـ”قحت” حتى الآن لم تطرح تصوراً مشتركاً لبرنامج إدارة المرحلة الانتقالية، وجل ما عرفه الناس أن كواليس “قحت” تستعر فيها المحاصصات الحزبية والمكاسب الفئوية الضيقة والتنافس غير الشريف من أجل المناصب، وغياب التقدير الدقيق لخطورة المرحلة التي تقتضي برنامجاً يتجاوز السقف الحزبي ويطرح برنامجاً مشتركاً ومقنعاً للشعب السوداني، سواء من حيث أهدافه الواضحة، أو من حيث الشخصيات الوطنية المسؤولة.
فما لم تواجه “قحت” حراك فلول النظام السابق والظاهر بحسم وقوة هيبة الدولة، فإن تفاقم الأوضاع لا يبشر بخير، لأن السيولة الأمنية التي يشهدها السودان، سواء عبر عمليات “شد الأطراف” التي تحدث بين حين وآخر، أم عبر تحركات فلول النظام عبر قناع القبائل، ستتواصل طردياً كلما تقاصرت “قحت” عن الاستجابة الحاسمة، وعجزت عن فرض هيبة الدولة.
على “قحت” أن تدرك بوضوح شديد أن الوضع الآن على مفترق طرق خطير، وأنه ما لم تتجاوز خلافاتها التافهة على المناصب الحزبية، فإن شيئاً خطيراً سيحدث للمرحلة الانتقالية، وإذا ما انفلت الوضع الأمني في ظل الضغوط التي تتسارع فيها الأحداث، سواء عبر عمليات “شد الأطراف”، أو عبر حراك فلول نظام البشير، أو عبر الاختراقات الأمنية التي تتم باستمرار ضد حركات اتفاق جوبا، أو عبر التدخلات المحتملة لمحاور إقليمية تسارع الخطى لقطع الطريق على إنضاج البرنامج الدولي والأميركي لدعم المدنيين في السودان، من خلال تنفيذ قانون “الانتقال الديمقراطي للسودان والمحاسبة والشفافية”، أو إنهاء ترتيبات البعثة السياسية للأمم المتحدة، فإن الأمر في شأن الانهيار الشامل سيكون بمثابة شد خيط رفيع قد يخلط انقطاعه الأوراق ويدخل السودان في متاهة مظلمة ومديدة، نتيجة لما قد يكتبه التاريخ بمداد أسود في حق أحزاب قوى الحرية والتغيير الذين مكنتهم لحظة ثورية تاريخية عظيمة لهذا الشعب من أجل الوقوف على أقدامهم بالسودان في الجانب الصحيح من التاريخ، فوقفوا في الجانب الخطأ والمظلم من ذلك التاريخ!
صحيفة السوداني