حين وجدَ يوسف بدري، أنّه لا بدَّ من طباعة مذكّراتِ والده، بابكر بدري، قالوا إنّه عكف عليها. ليس كلُّ ما يُعرَفُ يُقَال. نقّحَ يوسف بدري المذكّرات. حذفَ الكثير، الذي يقولون إنّه قد يصلُ إلى الثُلث. ما كان يعرفُه بابكر بدري عن أم درمان والسّودان، والمهديّة والإنجليز كثير. لكنْ هل من الضروري أنْ يعرف الآخرون، الأجيال القادمة، ما كان يعرفُه؟ ثمّة ما يجبرُ يوسف بدري على ذلك. الكثيرون يفضّلون خيارَ الجهل، أو عدم المعرفة. وفي مجتمعٍ يعيشُ على رأي الآخرين في الشخص والأسرة والأحساب والأنساب، من الأوفق العمل على التعتيم والتّكتُّم على المعلومات. مثل ذلك وقعَ حين جرتْ إعادةُ طباعة كتاب “تأريخ مدينة الخرطوم”، لمحمّد سيد أحمد. تمَّ تنقيحُه بحيث أُخرِجَ كلُّ ما من شأنه أنْ يمسَّ العوائل والأسر “العريقة”. تساءلَ صديقي الرّوائي الكبير منصور الصّويّم، ذاتَ يوم: “هل هناك أسرٌ ليستْ عريقة؟”. الصّويّم بتساؤله المفخّخ، يقدح في المصطلح. بل يسدّد إليه طعنةً نجلاء. فالذي يحدّد أنّ هذه أسرة عريقة، وتلك أسرة غير عريقة، ضوابط واهنة وضعتها الأسر العريقةُ ذاتها. مثل تحديد “العالم الثالث”. ليس في مقدور أحدٍ اليوم أنْ ينكر مفهوم وحدود مصطلح “العالم الثالث”، أو “الشعوب البدائيّة”. لقد صارت المصطلحات والمفاهيمُ هذه جزءا من الوعي العالمي. وليس في مُكْنَةِ الصّويّم اليوم أنْ يعيدَ تعريفها، أو ضبطها.
حين رأتِ السلطة الحاكمة أنْ تخرجَ سيرة محمّد بن إسحق إلى العالم الإسلامي، حينها، رأتْ أنْ تعهدَ بها إلى رجلٍ “موثوق”، يقوم بتنقيّتها و”تصليحها”، حتّى يتمكّنَ “عوامُ المسلمين” من الاطّلاع عليها. لا تريدُ السُّلطةُ أنْ تفسدَ على المسلمين دينهم بمعرفة ما جرى على حقيقته، ولا كيف جرى، ولا “مَنْ كان ماذا؟” كما يقول غابرييل ماركيز. ذلك أنّ ثمّة صورةً نقيّةً للأشياء يتوجّب نقلها للحفاظ على الدّين، الوطن، العرق، الأبوين، وغيرها. لا أحدَ يُريد أنْ يعرف الحقيقة كاملة. ذلك ما يجعلُ العقل النّاقد يقف حائراً: إمّا أنّ هناك شخصاً أفسد الأشياء، أو أنّ ما جرى لم يجرِ كما قالوا لنا. فتقعَ البلبلةُ في الأشياء التي أراد لنا الكبار أنْ نحافظ عليها.
ليس من الحكمة معرفة ما جرى، على وجه الدّقة. تلك زياداتٌ لا ضرورة لها بالنّسبة للعوام. حتّى لا يقع ما لا تُحمد عقباه. يوسف بدري، عليه رحمة الله، هو الوحيد من الجيل اللاحق للمهدية الذي عرف ما جرى. ولا يمكنه أنْ يقول لنا، بالطبع. كما لا يمكننا معرفة ذلك. مثله مثل التواريخ القريبة، اللاحقة للمهدية، بل السنوات الثلاثين للإنقاذ. وأكثر من ذلك، لا أحد سيعرفُ حقيقة ما جرى قبل خلع الرئيس البشير. سنسمع رواياتٍ كثيرة، متناقضة في الغالب. مَنْ فتح بوابة القيادة العامّة؟ هل هو صلاح قوش؟ هل هو الجيش؟ هل اقتحمها الثوّار عُنوةً؟ لنْ نصدِّق لينا يعقوب، قطعاً. كما لن نصدِّق حامد الجامد، ولن نفعل مع محمد وداعة أو الصادق المهدي أو محمّد ضياء الدّين.
ليس من الحكمة أنْ يصدّق المرء ما يقال. يقولون شهاداتٍ للتأريخ. لكنّها موضع شكّ وشبهة، طالما أنّ غايتها ليست الحقيقة، بأي حالٍ من الأحوال. تريد أنْ تنفي التُّهم عن أناس، وتلصقها بآخرين. حتّى مسألة فضّ اعتصام القيادة، لو جاءتْ لجانٌ نزيهة من واق الواق، كما فعلتْ في ملفّ محاولة اغتيال حمدوك، لما خرجتْ بالحقائق السّاطعة التي لا تحتاج إلى ضوء. حتّى لو خرج ساطع الحاج ذات نفسه، فلن يكون ساطعاً. طالما أنَّ هناك غاياتٍ أخرى غير الحقيقة المحضة، الخالصة. هيجل نفسه لن يعرف الحقيقة، بأيِّ حالٍ من الأحوال.
صحيفة الصيحة