أرى تحت الرماد وميض نار .. ملامح ثورة الجياع في شوارع الخرطوم!!

عندما كتب الشاعر نصر بن سيّار إلى والي العراق يزيد بن هبيرة، ثم إلى مروان بن محمد آخر خلفاء الأمويين في دمشق محذراً من كارثة الخوارج القادمة بقوله “أرى تحت الرماد وميض نار.. ويوشك أن يكون له ضرام.. فإن النار بالعودين تُذكَى وإن الحرب مبدؤها كلام.. فإن لم يُطفِها عقلاء قوم يكون وقودها جثثٌ وهام.. فقلت من التعجب ليت شعري أأيقاظ أمية أم نيام؟؟” كان حينها والياً على خراسان، وكان قد استشعر بوادر الانفجار ونُذُر الخطر على مصير الدولة الأموية.

ربما ذات وميض النار يبرق الآن بالخرطوم في بوادر ثورة على حكومة الثورة رافعة شعار “تسقط ثالث”، كون أن حكومة الثورة الانتقالية الحالية لم تُلب طموح الشباب الذين خرجوا ليمهروا إزالة نظام ديكتاتوري بدمائهم، أملاً في مستقبل زَاهٍ، لكن حلمهم أصبح كابوساً وهم يرون كل يوم فشلاً جديداً للحكومة، وزيادة في أسعار السلع الاستهلاكية بلغ حداً أصبح فيه المواطن غير قادرٍ على تلبية حاجياته المعيشية، صاحبتها زيادات مهولة من قبل الحكومة لأسعار الخدمات والسلع التي توفرها.. لكن ليس من بين قوى الحرية والتغيير نصر بن سيار آخر لينبه للانفجار.

تنامي التظاهرات

تظاهرات بدأت تخرج خجولة في الخرطوم وبعض المناطق في عددٍ من الولايات لم تلبث أن تناسلت وتزايد عددها وعدد من يقومون بها، يُطالبون جميعاً بسقوط حكومة حمدوك، وقد ظلت أطراف الخرطوم خلال الأيام الثلاثة الماضية تشتعل حيناً وتخبو شعلات “اللساتك” فيها لتشتعل من جديد مع إغلاق لبعض الطرق، لكن الملاحظ أن السلطات لم تمنع الثوار من التعبير عن آرائهم، بيد أنها صمتت عن أي قول يُشير إلى أن الحكومة تسمع وترى ما يمر به المواطن من مزالق معيشية ربما تتطوّر إلى ثورة جياع.

تتريس وانفجار

تجدّدت التظاهرات، أمس الاثنين، في بحري وشرق النيل وأمدرمان والخرطوم وجبل أولياء، احتجاجاً على ارتفاع أسعار السلع الرئيسية، وكان انفجار الشارع الذي لم تتحسّب له الحكومة بدأ رويداً رويداً، في ظل ظروف حتمت الخروج، لدرجة أن من يُحرِّك التظاهرات حتى الآن غير واضحٍ، فهناك من يرى أن فلول النظام البائد تعمل على تحريك الشارع أملاً في عودتها مرة أخرى، وهناك من يرى أن الشارع خرج من تلقاء نفسه يبحث عن حلول جذرية لمشكلات تواجهه، بينما ترى فئة ثالثة أن رؤى أنصار النظام البائد ورؤى الشعب تطابقت، بينما تختلف أهدافهم بين شعب يطالب بالإصلاح وبقايا نظام تطالب بإسقاط الحكومة.

رؤى متباينة

وبين هؤلاء وأولئك، أصدر تجمع المهنيين، بياناً أيّد فيه خروج الجماهير للشارع، مبيناً أنهم خرجوا في مناطق متفرقة من العاصمة والولايات، تنديداً بسياسات التجويع والإفقار التي تصر عليها السلطة الانتقالية، كونها ذات سياسات نظام البشير وصدماته التي ثَارَ عليها شعبنا وأسقطها، لافتاً إلى أن ذات السياسات تظل واجبة المقاومة والإسقاط مرةً أخرى من أجل فرض توجهات تنموية عادلة ومُتّزنة، مُنحازة للكادحين والمنتجين والإنتاج، واعتبر تجمع المهنيين أن الثوار خرجوا على ما اعتبروه ردة عن شعارات الثورة وأهدافها.

كلمة الشعب

وفي ذات الإطار، قال القيادي بتجمع المهنيين عمار الباقر لـ(الصيحة)، إن الشعب هو الذي يقول كلمته الآن وعلى الحكومة أن تسمع له، مبيناً أن الشعب خرج من تلقاء نفسه نتيجة الأزمة الاقتصادية والفشل الذي لازم سياسات الحكومة في معالجة الأزمات، فضلاً عن رؤيته لقيادات الأحزاب تتقاسم السلطة وفق محاصصات أدّت لتعطيل تكوين الحكومة نفسها ما رتب له إحساساً بأن الحكومة يجب أن تسمع صوت الشعب المُنادي بمعالجة تلك السياسات الخاطئة، لافتاً إلى أنهم في تجمع المهنيين جاءوا من الشارع وينحازون دوماً لمطالب الشارع.

لا خوف

ولا يرى الباقر خوفاً من أن يقود أنصار النظام البائد، التظاهرات من واقع أن أنصار الثورة من الشعب السوداني لا يطالبون بإسقاط الحكومة الانتقالية، بل يطالبون بالإصلاح وإلغاء السياسات الفاشلة التي تنتهجها الحكومة، بينما يطالب فلول النظام بإسقاط الحكومة بهدف عودتهم لسدة الحكم من جديد، بينما يعي الشعب ذلك ويرفضه جملةً وتفصيلاً، مما يعني أن حلم عودة النظام السابق للحكم لن يتحقق وستغلب إرادة الشعب في توصيل صوته للحكومة بالتراجع عن السياسات الفاشلة وتحقيق أهداف الثورة.

صحوة

ربما وميض النار قد أيقظ بعض قيادات الحكومة الانتقالية، فقد أقر عضو مجلس السيادة الانتقالي، نائب رئيس لجنة إزالة التمكين، محمد الفكي سليمان أمس الأول، بسوء الأحوال الاقتصادية، وقال في مؤتمر صحفي “الأداء الاقتصادي سيئ جداً ونحن نعترف بذلك”، مشيراً الى أن ذلك أدى لحدوث احتجاجات في مناطق مختلفة بالخرطوم، لجهة تردي الأحوال المعيشية، لكنه اعتبر ان من يقودون الاحتجاجات عناصر “الثورة المُضادة”، ودعا السودانيين للتمسك بالأمل وروح الثورة.

حديث الثوار

لكن عدداً من المحتجين في المواكب المتفرقة استطلعتهم “الصيحة” أمس، أشاروا الى أن تصريحات قادة الحكومة مثل تصريح عضو مجلس السيادة محمد الفكي تشابه ذات التصريحات التي كان يطلقها قادة النظام المُباد عندما كانوا يرون أن التظاهرات أقل من أن تحدث تغييراً، لافتين الى تصريح آخر صدر عن القيادي اليساري الشفيع خضر قال فيه، إن التظاهرات لا تسقط حكومة، وقرنوا ذلك بذات النهج الذي انتهجته حكومة البشير في بداية الثورة عندما كانوا يرون أن الشعب الثائر أقل من الخروج لمخاطبته او تقديم تبريرات له عن الواقع الاقتصادي.

دعوة للاستماع

وربما أحسّت الحاضنة السياسية لحكومة الفترة الانتقالية بخطر يُحيط بالحكومة، فكان أن دعا رئيس حزب المؤتمر السوداني “أكبر مكونات الحرية والتغيير” المهندس عمر الدقير، الحكومة الانتقالية لأن تفارق حالة الاعتصام بالصمت، وأن تتحدّث إلى شعبها حول الأزمات الاقتصادية التي تزداد حِدّتها مع طلوع كل صباح، ووصف الاحتجاجات التي تشهدها بعض المناطق بأنها “تأتي على خلفية تفاقم المعاناة الاقتصادية والتدهور الأمني ومجمل الأداء خلال الفترة السابقة”، مؤكداً أن الاحتجاجات الجماهيرية السلمية حقٌ مشروعٌ ومن واجب الحكومة أن تقابلها بالاعتبار اللازم وليس بالتجاهُل أو الأُذُن الصمّاء، لكنه ربما التمس للحكومة عذراً عندما قال “لا أحد ينكر أن الحكومة الانتقالية ورثت أزمة وطنية شاملة، ومن معالمها البارزة الواقع الاقتصادي المُتردي”.

الخرطوم – محجوب عثمان
صحيفة الصيحة

Exit mobile version