اذا كنت قد تعرضت قبل يومين لحكاية (السكرتير المركب مكنة رئيس)، فاذا بي يقودني حظي العاثر يوم أمس للتعامل مع (ميكانيكي مركب مكنة سياسي)، فالعطب البسيط في سيارتي ال(نصف عمر ونصف حجم) التي عيرني بها أحد السابلة بسبب مضايقتي له في أحد الشوارع صارخاً في وجهي (قايل عندك عربية، اختشي دي عربية بنات)، فقد أوقعني هذا العطب تحت قبضة هذا الميكانيكي السياسي، ولا عجب ألا يقولون أن السودان بلد الاربعين مليون سياسي، فقد قضيت مع هذا الميكانيكي (البراي) قرابة الساعة والنصف قضى أغلبها في الهرطقة والطربقة والهترشة السياسية، رغم أن اصلاح العطب ما كان يحتاج لأكثر من نصف ساعة، ولكن من بين ما كل ما (هراني) به، استوقفني حديثه عن الفساد، وأنقل هنا بتصرف واعادة صياغة لما قاله من حديث بدارجة مخلوطة باللغة المهنية للميكانيكية..
فساد العهد البائد شامل ومؤسسي، وانتهى بأدعياء (الأيدي المتوضئة أمينة) إلى أسوأ ناهبين للمال العام في تاريخ السودان الحديث، وهو فساد ثابت بل ويرى بالعين دون حاجة لأسانيد ومستندات، ولكن رغم كبر حجم هذا الفساد كما ونوعا، الا أننا لا نلحظ فعلا حقيقيا لمحاربته بتقديم الفاسدين الكثر لمحاكمات، وانما فقط خطاب سياسي وإعلامي وكلام كثير على المستوى النظري وهجوم كلامي على الفساد والزراية بالمفسدين، الكل بلا إستثناء يهاجم بضراوة الفساد ثم ينبري ليكيل سيلاً من الشتائم على المفسدين ثم لا ينسى أن ينذرهم بالويل وسواد الليل، ثم يترجلوا عن منابرهم كما يترجل الفرسان من صهوات جيادهم بعد أن أجادوا الحرب على الفساد باللسان وقارعوه بالبيان، وكثرة الحديث عن مكافحة الفساد ومعاقبة الفاسدين بالكثافة التي نسمعها ونقرؤها على مدار دون أن نسمع أو نقرأ أو نرى أن أحدا، مجرد واحد من الفاسدين قد تم الكشف عنه ومعاقبته، لهو نوع آخر من الفساد، من حيث أن هذه الكثرة الكلامية النظرية عن الفساد وضرورة محاربته حربا لا هوادة فيها، غير أنها تبتذل هذه المفردة وتفرغها من مضمونها العملي الفعلي، فانها كذلك تمنح الفاسدين إحساساً بالطمأنينة ويمنحهم الشعور بالامان بعد أن يحسوا بأن كل ما يثار ويقال حول الفساد ما هو إلا هوجة ولهوجة وجعجعة بلا طحين، هذا طبعاً إن لم يكن هذا الهجوم النظري الكاسح على الفساد مقصود لذاته على طريقة ذر الرماد في العيون، فحين لا تتجاوز مساهمة مسؤول على سدة السلطة لمكافحة الفساد حدود لسانه وبالاكثار من ذكره فقط، فماذا يمكن أن نقول عن ذلك، سنقول عنها إن صدق أنها بنية خالصة لا يخالطها دخن أو دخان، مكافحة بأضعف الايمان مع وجود القوة والقدرة على المكافحة باليد والسلطان، وهذه مفارقة لن تزيد الفساد إلا منعة وتمكنا وتطبعا ليصبح الحديث عن الفساد شيء طبيعي وعادي لا يلفت النظر ولا يخدش حتى حياء الفاسدين وهنا تكمن الخطورة..وبعد..أليس هذا الميكانيكي محلل سياسي خطير يستحق أن تستضيفه الفضائيات..
***********
حيدر المكاشفي – صحيفة الجريدة