فجوة كبيرة بين جيلي ابوحنفي والإمام ابوحنيفة

شاهدت فيديو الفتاة التي هربت مع عشيقها و تزوجته أمام المحكمة ، كما شاهدت مقطع رد الوالد على أقوالها .
من خلال الفيديو الذي بثته الفتاة نستطيع أن نستخلص بأنها كانت مجبرة على نشر الغسيل في الميديا ، وليس كما يدعي البعض بأنها مدفوعة من جهات لها مصلحة في انحلال المجتمع . أو رأي آخرين بأنها تريد من بعض الجهات الغربية تبني قضيتها و دعمها للحصول على إقامة في دولة غربية …
حسب ما قرأته في لقائها أنها خرجت و أعلنت زواجها لتنفي قصة الاختطاف التي أدعاها والدها في بلاغ رسمي عند الشرطة ، أسفر عن اعتقال عدد من الأبرياء حسب رأيها، و هم الذين شاركوا في اختطافها حسب ادعاء الوالد . فالفيديو يوضح بأنها هربت ،و ينسف أي ادعاء باختطافها …
بقدر ما كانت الفتاة ثابتة في إحدى اللقاءات الأثيرية مع شاب جنوبي في دحض فرية الوالد ، إلا أن الوالد كان مرتبكا في أقواله و متناقض أيضا ، فكيف يقول انه دعى بعض الأشخاص ليعقد لها على الشاب ، وهي ترفض العرض و تهرب معه في نفس الوقت !!!!.
بغض النظر عن صحة تصرف الفتاة من خطئه ، دعونا نناقش القضية بهدوء بعيدا عن الانفعال و التشنج …
هذه الفتاة ليست الأولى ولا الأخيرة التي تزوجت بهذه الطريقة ، فالظاهرة قديمة قدم مجتمعاتنا المتباينة ثقافيا و عرقيا و اثنيا . الكثير من الزيجات التي تمت بهذه الطريقة فشلت و لم يكتب لها الاستمرار ، على الأقل التي أعرفها انا شخصيا أو التي سمعت عنها من معارفي . لكن بالتأكيد هناك زيجات نجحت و استمرت وانتجت البنين و البنات ، تم ذلك بعد وضع الأسرة الرافضة أمام الأمر الواقع ، حيث تراجعت الأسرة وضمت الفتاة و أسرتها الجديدة مرة أخرى إلى حضنها .
هذه الحالة أيضا كان يمكن أن تكون محدودة الأثر و تضاف إلى الزيجات السابقة التي تمت بنفس الطريقة ولم ينتبه لها احد، لولا أنتشارها في الوسائط الإلكترونية و متابعتها من قبل الملايين …
انقسمت الآراء حول الحادثة بين مؤيد لتصرف الفتاة و جرأتها في مقاومة أسرتها لترتبط بمن تحبه ، و أثباتها لذاتها و تحقيق امنياتها، و بين معترض لما قامت به من مخالفة أسرتها و تقاليد المجتمع و عاداته ، بل ذهب البعض إلى خروجها عن توجيهات الشرع في أمر الزواج، و بطلان الارتباط بينها و بين الشاب بسبب عدم وجود ولي …
ظللت اكرر عبر هذه الصفحة بأن مجتمعنا يتغير بسرعة شديدة تبعا لتطور الحياة بصورة عامة ، لكن للأسف هناك جمود و بطئ من مؤسساتنا الاجتماعية و الدينية لمواكبة هذه التغيرات ..
في عصر الاسفير المفتوح على مصراعيه، لم يعد لمجتمعنا القديم السطوة في التحكم على سلوك و تصرفات أبنائنا و بناتنا كما هو الحال في السابق ، بل هناك جهات أخرى تشاركنا في غرس مفاهيم مغايرة عن نظرتنا للحياة في أذهانهم . مهما كانت سطوة الأسرة فإنها لن تستطيع فرض كامل سيطرتها على أبنائها ، بسبب اتساع مصادر المعرفة ، و التعرف على ثقافات و حيوات مختلفة .
هذه الفتاة تحمل بساطة أهل الريف ، و الذكاء الذي يشع من عينيها جعلها تتخرج من الجامعة دون سن العشرين حسب ما ورد ذكره في مقاطع الفيديو . مثل هذه الفتاة لن تركن لآراء بالية تقتنع بها الأسرة و تقدسها بأن هذا عب و ذاك به رائحة عبودية و ذاك جنوبي أو شمالي .مثل هذه الأفكار يمكن أن يقتنع بها الوالد الذي خرج من مجتمع كان يعتبر التعليم حرام في السابق .
لكن جيل هذه الفتاة ، جيل المعرفة المتاحة عبر موبايل محمول في كف اليد ، و حواجز معدومة في تلقى المعلومات و العلوم و التواصل مع كل الثقافات الإنسانية . هذا الجيل رؤيته للآخر تختلف تماما عن الجيل السابق ، نظرته للآخر تتجاوز التباين العرقي و الاثني و الجهوي ، إلى رحاب الإنسانية التي لا تحدها حوائط العنصرية البغيضة و الانغلاق المجتمعي ..
لا يكفي أن تقول لمثل هذه الفتاة الذكية استحالة ارتباطها بالشخص الذي اختارته بسبب اختلاف عرقه أو لونه أو جهته أو ثقافته !! . ستواجهك بالكثير من الأسئلة التي تهد حائطك الهش و تعري تبريراتك الفطيرة . وقتها سيكون ردك الوحيد هو الضرب و الحبس و نزع الهاتف – احد أدوات المعرفة – .
و بالتأكيد لن تستطيع هي من محبسها أن تقنعك بخطأ أفكارك التي لا تقنعها ، لأن صوت العقل قد غاب و حل محله ( سوط ) العنف و التنكيل . و سينصب كل تفكيرها في كيفية الهروب من هذا السجن القسري .
ابدأ لن تفكر في مآلات تصرفها أيا كان ، بقدر ما يكون تركيزها هروبها إلى فضاءات أرحب من هذا السجن .
قبل أن نحاكم هذه الفتاة اليافعة بما فعلته أحلالا هو أم حراما ، أجدر بنا أن نبحث عن دوافع الفعل و ظروفه . القراءة الصحيحة لواقعها و معاناتها يدلنا على دوافع الفعل . لو كان بها غباء كالاخريات لاختارت الانتحار مهربا كما يفعلن في السابق ، لكنها اختارت غير ذلك . اختارت فقط أن تبتعد لتبدأ حياة مهما تصورت بؤسها، فهي أفضل حالا من السجن التي حبست فيه و الضرب و الإزلال الذي لاقته من اسرتها …
هناك فجوة حقيقية بين جيل الأب الذي يرى أن هناك شخص آخر (ود ناس) تستحقه ابنته أفضل من (العبد) حسب ما قالته الفتاة ، أو (ابن الفدادية) حسب ما ذكره الوالد ، و جيل البنت التي ترى أن الإنسانية تجمع كل البشر و تساويهم، و يبقى الفارق هو الدين و الاخلاق و القيم ، و لكل شخص الحرية في اختيار شريكه دون تدخل أي طرف إلا في حدود النصح و إبداء الرأي ، و ترك الخيار لها لتحدد فارس أحلامها وفق رؤيتها و أحلامها و طموحاتها .
نحتاج إلى مؤسسات مجتمع مدني تقرب وجهات النظر بين هذه الأجيال و تردم الهوة الشاسعة التي تباعد بين مفاهيمها و رؤيتها للحياة . بالتأكيد لا يمكن أن تكون رؤية الفتاة العشرينة خريجة الشريعة و القانون، هي نفس مفهومها عند الوالد الستيني خريج الخلوة أو الثانوي في الثمانينات …
مؤسسات المجتمع المدني أو المؤسسات الاجتماعية الرسمية تستطيع أن تحدد حجم الفجوة، و طريقة رتقها ، بعيدا عن اجهزة الإعلام و الوسائط الإلكترونية ، تتفهم قناعات الوالد و تقنعه بخطأ بعضها، و تمتص اندفاع الفتاة و تشرح لها مدى طيش بعض أفكارها …
هذه المؤسسات الرسمية او الشعبية، هي التي يجب ان ننادي بها ، لحماية مجتمعنا من الانزلاق ، صراخنا بأن هذا حلال و ذاك حرام ، و هذا يجوز و ذاك لا ، هذا صحيح مطلق و ذاك خطأ مطلق . هذا الصراخ لن يفيد المجتمع بشئ بقدر ما يزيد من المشكلة و يعمق الأزمة اكثر .
المؤسسات التي أنادي بها تتألف من علماء نفس و اجتماع و دين و ثقافة . علماء يدرسوا مشاكل مجتمعاتنا بعمق ، ليضعوا لها الحلول وفقا للتطور المتسارع للحياة من حولنا .
أزمة الفتاة رمت لنا حجرا في بئر امراضنا الراكدة ، فهل نلتقط القفاز لإيجاد الحلول الاجتماعية، لجيل يتلمس الطريق بين تقاليد نريد أن نلزمهم بها بدون اقناع ، و بين معرفة اكتسبوها تهد البائد من هذه التقاليد هدا ، هل نلتقط القفاز أم نظل نحبسهم و نضربهم ، وأن هربوا نلعنهم و نقول انهم لا يحترموننا و يطبقون الدين الذي نتوهمه ؟؟ .
قبل أن نلعنهم و نتهمهم بتقويض عرى الدين ، يجب أن نستمع إليهم و نتفهم دوافعهم، و الا نحاكمهم برؤيتنا نحن للحياة و للدين .
يا لهذا الدين الذي تهدد استمراريته فتاة في العشرين من عمرها …!!!

سالم الأمين بشير 24ديسمبر 2020

Exit mobile version