كانت أول مرة أشاهد فيها وجه اللواء الطبيب الشهيد عبد الله حسن أحمد البشير في صورة فوتوغرافية بألبوم الشهيد عبد الإله خوجلي (صنديد دار الهاتف) وهما طلاب طب بمصر الشقيقة. كان عبدالإله بطب القصر العيني، وعبد الله بطب الاسكندرية وفي رفقتهما محمد الحسن أحمد البشير، وكان يومها عريساً قد بنى بإحدى صالحات الكنانة ومعهم المهندس مكاوي محمد عوض الذي صار لاحقاً وزيراً للطاقة والكهرباء.
ضاعت مني اللقطة ولكن الأخ مكاوي أرسلها لي، فجعلتها نادرة في (ألوان) أواخر التسعينات، وحين تعرفت على الراحل لاحقاً كان يصر علي ملحفًا أن أهدي له الصورة ليجعلها في صدر صالونه، ويكتب تحتها عبارة: (رعى الله أهل مصر وايامها الطيبات).
إني أشهد بأنني لم أسمع أحداً يضحك من قلبه مثل عبدالله بعد كل عمل جليل وبعد كل قول نبيل.
وقد حكى لي من أثق فيه أن ضحكته الصافية هذه لم يتنازل عنها حتى في أيام المتحركات ومنازلة الأعداء في أحراش الجنوب، وقد قابله هناك أكثر من ثلاث مرات، قال لي: (كنا نضع أيدينا على فمه حين يضحك حتى لا ينتبه الأعداء).
ومن لطائفه حين سألته عن زيجة ثالثة لم تكتمل قال حول مذكرتها التفسيرية: (أردت (أن أناسبكم) في أمدرمان، لكن (العوازل) استخدموا حق الڤيتو، فأفشلوا المحاولة). وأشار إلى البشير من بعيد وأطلق ضحكته الصافية المعهودة.
وعلى شرفة إحدى اللقاءات في قناة أمدرمان الفضائية أعترف لي بأنه ما أحب في هذه الدنيا شيئاً مثل حبه لبالطو الأطباء وبزة العسكريين، وعندما أبعده الفريق عبد الرحيم محمد حسين وزير الدفاع في كشفه الأخير لم ينم حتى الصباح لأنه لم يتخيل نفسه بعيداً عن هذه المهنة الشريفة، مهنة الفداء والشهادة وحب الوطن والآخرين. وأعترف بأنها كانت المرة الوحيدة التي ذهب فيها للبشير في أمر شخصي مطالباً بمراجعة القرار، فرد عليه بحزم: (أنا لا أتدخل في تفاصيل القرارات الرسمية، خاصة المرتبطة بالجيش، رغم احترامي لرغبتك). قالها بصرامة وحدة، وأضاف عبد الله: (لم أناقشه وخرجت عنه مغاضباً).
وأثناء أنسنا في أحد الملتقيات انتحينا جانباً ومن قلب الأنس حدثته بصداقتي بشقيقه الشهيد الشاعر عثمان حسن أحمد البشير الأديب الجامعي الصحفي الذي عمل مصححاً بصحيفة الإنقاذ لمقالات هو أقدر على الإبداع من كاتبيها، نعم مصححاً وشقيقه كان رئيساً للجمهورية. كان عثمان عليه الرحمة رجلاً مصنوعاً من طين الزهد والعزة والكبرياء. خرج من هذه الدنيا وليس له من إرث إلا موتور سايكل قديم، ورف من كتب الفقه والأدب والسيرة، وديوان شعر مخطوط. وعندما وصلت إلى هذا الحد من الحكاية عن الشهيد إنفجر عبدالله باكياً في حزن عميق حتى إنتبه لنا المجاورون في الملتقى، فسريت عنه حتى هدأ وودعني وإنصرف في هدوء وكان صمته ودموعه أبلغ من كل الكلمات.
كان عبدالله عليه الرحمة كريماً لا يرد سائلاً ولا مريضاً ولا صاحب حاجة وما أرسلت له رجلاً أو إمرأة قط من أصحاب الحاجات إلا أوفاهم حاجتهم بما يكفي لعام.
ومن عباراته المتسامحة وهو يرد على خصومه: (أنهم يرددون ليل نهار بأنني شقيق عمر ولو أرادوا الحقيقة لقالوا ان عمر شقيقي. أنا رتبة بسماعة وكلاشنكوف وعمر رتبة بكلاشنكوف لاغير وعبء ثقيل من الأمانة، فمن هو شقيق الآخر؟).
وللرجل نظرية في التعدد الذي يجعله مدخلاً للخلاص في السودان ويقول لي حازماً: (إن الدراسات التي قدمها علماء التنمية في الداخل والخارج أفادت بأن السودان يحتمل أن يعمره ٤٠٠ مليون مواطن، وهم بهذه الكثافة وحدها يستطيعون أن ينتجوا التنمية والحضارة والسلام، ولكن بهذا العدد الضئيل من السكان سوف يتخطف الأعداء هذه البلاد الثرية وسوف يغرق الـ ٤٠ مليون في دوامة من الحرب والإقتتال، ونظل ندفع كل امكاناتنا لحماية هذا القطر القارة وهيهات هيهات). ويواصل في هدوء العلماء في شرح أطروحته قائلاً: (إن التكاثر الطيب المضاد للتخلخل السكاني هو الحل تحت شعار في كل بيت رحمة وفي كل رحم طفل. نعم هو السبيل الوحيد للعمران لهذه البلاد التي نخاف أن يعاد استعمارها من جديد، ونحن حيارى نرفل في ضلالنا القديم). ولا ينسى في غمرة حديثه الجاد أن يرد على التهمة الثانية بلطيفة تدعو للتدبر والابتسام حيث يقول: (أنا مثل رسولي وزعيمي المصطفى محب للعطر والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة فهل من معترض؟).
ان كل الذين رافقوه في أيامه الأخيرة قالوا أنه قابل صلف الإجراءات الظالمة بذات الكبرياء المتعالي على صغائر الأقزام، ورغم أن الداء كان يمتص رحيق عافيته يوماً بعد يوم إلا أنه كان يطمئن زائريه بهذا الرضا الصوفي بإفترار الثغر والصبر الجميل.
وفي آخر لقاء لي بالراحل قبل عدة أشهر قلت له ملاطفاً: (لقد قرأت يا عبد الله البارحة رثاء أحد الصحابة للإمام المسموم الحسن بن علي، الذي كانت تصر القبائل العربية على تزويجه طلباً للتقرب من العترة النبوية الشريفة. ورغم أن سيدنا علي قد وجه بعدم تزويجه إلا أن القبائل الشغوفة بصلة المصطفى لم تطبق توجيهات الإمام وكذلك الحسن. ولذا فإن أكثر الأشراف المنتشرين في أصقاع العالم الإسلامي هم من السادة الحسنية، وبعد أن قبروا الحسن وقف هذا الصحابي الجليل قائلاً: (بأبي وأمي أنت يا ابن رسول الله يا كبير الجفنة يا نكاح النساء). والجفنة عند السودانيين هي القدح الخشبي أب خُرس وهي الحديدة التي يُجر منها للضيوف ومثل هذا القدح يكفي لإطعام خمسين ضيفاً أو يزيد عندما كان السودان سوداناً، وكان النعيم ود حمد وزيراً للزراعة).
فرح عبد الله بالحكاية وأرضته وداعبت فيه شوق قديم، قال لي: (إن لي عدة كتب في سيرة الإمام الشهيد الحسين، ولكنني منذ اليوم سأقتني أي كتاب عن الإمام الحسن عليه السلام، ولي رجاء أخير يا أبو الجاز – وهي كنية يطلقها أهل بحري وشرق النيل على كل أحد في اسمه خوجلي تيمناً بالشيخ خوجلي أبو الجاز- قال لي لقد أعددت ثلاث سهرات الأولى بعنوان شندي وطن الجمال عندي التي رصدت فيها المبدعين والنجوم والشعراء في هذه المدينة العريقة وما جاورها حوش بانقا والأخريات.
والسهرة الثانية بعنوان الشعر والغناء والنشيد وقد انطلقوا من فوهة بندقية وهي بحث عن التاريخ الفني والثقافي والإبداعي لمبدعي الجيش السوداني منذ الصاغ محمود أبوبكر صاحب صه يا كنار إلى اليوم، وعلى المشاهدين أن يحتملوا صوتي وأنا اغني في إحدى الحلقات رائعة خالي الرائد المرحوم الزين محمد الزين شقيق حاجة هدية، وبصوت شجي وصادح بدأ يغني رائعة خاله: (يا عيني تعاينن جننتنو قلبي) التي كتبها غزلاً في زوجته أيام الخطوبة والاختيار).
أما السهرة الثالثة فكان يقترحها عن الهلال تاريخه الوطني والأدبي والرياضي وسوف يغني فيها صلاح ابن البادية كل أغنيات أبو آمنة حامد كاتب الهلال وشاعره الأول.
مضى اللواء طبيب عبد الله دون أن نحقق أو يحقق رغبته الوسيمة في التوثيق، وقد حقق رغبات المئات بإنفاقه وصدقاته الخفية، ورعايته للعشرات من بيوت اليتامى والأرامل وهداياه الأنيقة للأقارب والأصدقاء، الذين بكوه في حرقة وتوجع وهم يواجهون فقده الفاجع ولؤم هذه الأيام الكالحات.
رحم الله عبدالله وأسكنه فسيح جناته مع شفيعه المصطفى صلى الله عليه وسلم. مضى عبد الله وليس في رصيده الأبقى إلا حب الناس وكفن من طرف السوق وشبر في المقابر. مضى عبد الله ناصعاً كالثوب الأبيض وقد تساقطت كل الإفتراءات والأكاذيب التي حاول الأعداء أن يلصقوها به يوم رحيله المر. نعم تساقطت كل التهم كأوراق الخريف وغثاء السيل وزبد البحار ومكث في الأرض ما ينفع الناس. لم يستطيعوا أن يقدموا حتى آخر ساعة في حياته بل حتى آخر رمق من أنفاسه أن يقدموا إتهاماً واحداً أو قضية تصمد أمام المحاكم. مضى عبد الله ولكأني أقف على قبره وقد تفرق الأحبة وأنا أردد آيات الصبر والمواساة: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).
وتحضرني مرافعة العارف الشعبي وهو يبكي فصاحة وعبرات:
مشرع كلّ مسكين البيملا الراوية
مُقْنع كشفتِن يوم العجاجة اللاوية
راح البِسْنِد العَتْرة ويسدّ الهاوية
خلّى الناس تقول (أعجاز نخلٍ) خاوية
أخي الرئيس البركة فيكم والعزاء لكم في حاجة هدية وودبدر ودكتور عبد الله والسودان، والمجد لك وأنت في زنزانة الشرف التي صارت محراباً لقيام الليل وتلاوة القرآن وأنت ترقب ابتلاءات هذا الشعب الصابر فكأنك أنت الحر الطليق الوحيد ونحن السجناء بقيد الجوع والفقر والمرض والجهل والجهالة وشرعية العملاء الزائفة.. (إنا لله وإنا إليه راجعون).
المصدر :السودان الجديد