هل يقع السوق الشعبي بأمدرمان تحت ظل إدارة حكومية تنفيذية تشرف عليه وتديره، أم أن هذا المكان نبت “سريالي” يتحرك وينمو ويتمدد وفقا لأحلام وكوابيس الأشخاص الذين ينتمون إليه ويعملون في أسواقه ومواقفه ومطاعمه ودلالاته وورشه وعلى سياراته و”كاوروه” ودباباته وركشاته وبين السائرين النيام في طرقه وأزقته وشوارعه ومقاهيه و”فنادق الريح” الليلية التي يوفرها؟
هل تشرف “المحلية” مثلا على هذا السوق وتتابع كل ما يستجد فيه وتعمل وتخطط ليكون سوقا “إنسانيا” على الأقل يحترم الأعداد الهائلة من البشر التي تغشاه في الصباح والمساء للتسوق والتبضع والعبور عبر مواقفه إلى مدن أمدرمان الكبرى.
الأسئلة أعلاه داهمتني بعد عبور السوق الشعبي أم درمان وأنا في طريقي إلى أحد أحياء أمبدة. حالة من الدوار والغضب والقرف أصابتني وأنا أحاول الوصول – فقط – من مدخل السوق – جهة الثورات – إلى مواقف مواصلات أمبدات في المدخل المقابل للسوق – جهة الخرطوم -. كانت الحافلة تتحرك في شارع أسفلتي أشبه بالخيط الأسود النحيل؛ تتزاحم عليه كل أنواع المركبات من “حافلات وأمجادات وركشات وكارو ودبابات وباصات سفرية وشاحنات ودفارات”، مسافة لا يتعدى قطعها زمنيا بالمركبة الخمس دقائق، فضياناها مسمرين داخل الحافلة “الخربة الصدئة” لأكثر من ساعة، والأدهي والأمر أن لا رابط أو ضابط لإيقاع الشارع، فالمساحة مفتوحة للكل وأنت وقدراتك في القيادة وسرقة خط السير دون أدنى مراعاة للآخرين. أين شرطة المرور؟ وأين المحلية والطرق من هذا الشارع الذي ضاق عن قدرات الحركة التي نمت أضعاف أضعافها من لحظة إنشائه قبل سنوات؟ زمن ميت ومهدر، وتلوث بفعل ازدحام المركبات وقتل للروح بفعل السأم والغضب الذي يصيب المرء المسجون داخل إحدى العربات المتحركة وكأنها جماعة من السلاحف الهرمة.
هل يعتقد المسؤولون – مثلا – أن المنتمين إلى الأمكنة الموصومة بـ “الشعبية” لا يستحقون توفير الخدمات الجيدة التي تحترم آدميتهم؟ هل يعتقدون أن سكان تلك المناطق التي تربض مواقفها في السوق الشعبي أم درمان لا يستحقون أمكنة مريحة للركوب والانتظار، كما لا يستحقون وسائل مواصلات مريحة؟ هل يدرك هؤلاء المسؤولون أن أغلب من يقطنون تلك الأماكن المنسية يعملون – نساء ورجالا – طوال اليوم ويكون مبلغ همهم هو العودة إلى المنزل بعد يوم عناء شاق! أتكون مكافأتهم المزيد من الازدحام والغبار وسوء التخطيط وانعدام وسائل المواصلات؟
السوق الشعبي أم درمان، وبحجم العمالة التي تتحرك فيه، وحالة الفوران التسويقي التي يلحظها من يزوره؛ لا بد أنه يرفد خزينة الدولة – المحلية بمليارات الجنيهات، أين تذهب هذه الأموال، ولماذا لا يستثمر ولو القليل منها في إصلاح الشوارع المدمرة وتخطيط الأسواق الصغيرة المنتشرة بشكل فوضوي في فضاءات السوق الكبير، ولماذا لا يتم ترسيم وتخطبط مواقف مواصلات تليق بهؤلاء الناس الكادحين أبناء الوطن الشرفاء.
في السوق الشعبي أم درمان تهان كرامة الإنسان.
منصور الصويم – صحيفة السوداني