الديمقراطية مرهقة نعم، فوضوية للدرجة التي يصعب معها كثيرا جدا السيطرة على ضبط النفس، وذلك لأنها تساوي في الفرص بين الجميع، العاقلين والمغفلين، الشرفاء والخونة، هي تسمح لكل شخص يملك رأيا ان يعبر عنه بغض النظر عن طبيعة هذا الرأي بالنسبة الآخرين، تسمح لكل تيار يملك أهدافا ان يسعى لتحقيقها بكل الطرق والوسائل السلمية والديمقراطية بغض نظر عن موقع هذه الأهداف من اهداف الغير، تفسح المجال لكل جسم لديه صوت ان يصرخ ليسمعه الناس، تفتح الباب لكل جهة تعتبر نفسها هي (الصاح ) ان تعبر عن ذلك. وكل هذا يحدث امامك، في الوسائط او الاخبار او اي مكان، الجميع يتعاركون في نفس الميدان وامامك مباشرة، وتأتيك أصواتهم في نفس الوقت واللحظة حتى يصيبك أحيانا منها الغثيان والهذيان، أو يغلبك التمييز أو تصبح في دوامة بلا قرار.
بيد ان الميزة الأصيلة في الديمقراطية انه غير مسموح فيها لشخص أو تيار او جسم او جهة ان تقهر اخرى او ان تقصيها بطرق غير قانونية، القهر والإقصاء وان حدث كخطا، فالخطأ في كوكب الديمقراطية يمكن تصحيحه بالقانون، فالفرصة لتصحيحه موجودة باستمرار ولا يوجد شيء اسمه ( too late )، لا يوجد شيء اسمه ( ديمقراطيتنا اتسرقت )، بل يوجد دوما شيء اسمه تصحيح الديمقراطية بمزيد من الديمقراطية، لذلك ترى وتسمع كل أشكال النقد العنيف والهين، وتمر بكل أنواع الاستقطاب الفكري الحقيقي والمفخخ، تغوص مع تشدد اليمين وتزحف مع تزلف اليسار وتطير مع مثالية الوسط وانت في مكانك لا تبارحه، لا يسجنك احد ولا يعذبك احد ولا يغتالك احد الجميع يتودد اليك كمواطن بالطرق السلمية.
ما حدث في انتخابات سكرتارية تجمع المهنيين وما حدث في وزارة الصحة الاتحادية في ظل الوزير السابق، كان هو الجو الديمقراطي المشحون بعشرات الآراء والمواقف والاتجاهات المتباينة، الجو الملون بكل الوان الطيف السياسي والثقافي والاجتماعي والمهني، الجو المكهرب بالخلافات التاريخية، والملطف بالتضحيات المشتركة، الجو الذي لا يمكن ان تمرر من خلاله اجندة التمكين ولا فهلوة السياسية، فالكل بالمرصاد للكل، ولا يصح الا ما بني على أساس ديمقراطي سليم.
هذا هو واقع الديمقراطية، الناس متساوون في حرية الرأي والقرار، كل فرد من الشعب يملك حرية ان يقول رأيه ويدعو له ويحاجج من أجله. تجد جماعة تدعو لاقالة حمدوك وجماعة تدعوا لبقاءه، جماعة تدعو لإلغاء مجلس الشركاء وجماعة تدعو لإصلاحه، جماعة تدعم الحكومة الانتقالية وجماعة تنادي باسقاطها سلميا، الرأي والرأي الآخر، الخيار والخيار المضاد، كله يوجد في نفس المكان والزمان، ولا يصح الا ما بني على أساس ديمقراطي سليم.
لهذا اختلاف الآراء داخل الأجسام والأحزاب السياسية والجماهير في الديمقراطية هو شيء طبيعي، فالجميع بشر و ليسوا ألهة، وطبيعة البشر الاختلاف، ولن تكون الخلافات العميقة في جسم شركاء الحكومة الانتقالية وفي تحالف الحرية والتغيير هي الأخيرة، بل هذه هي المناظر والفيلم (ما بدا لسه )، فيلم الديمقراطية وفوضويتها، فيلم الآراء المختلفة تحت سقف واحد، واظنكم تتابعون ما يجري في أمريكا بعد إنتخابات الرئاسية الامريكية، هذا هو الصراع الحر الديمقراطي، صراع فيه فوضوية نعم واختلاط ولكن أدواته ديمقراطية والغلبة فيه للأسس الديمقراطية .
انتهى عهد تكميم الأفواه، انتهى عهد مصادرة حرية التعبير، ذهب إلى غير رجعة الدكتاتور الذي يقهر الجميع على رأيه، وجاء عهد يفكر فيه الجميع بصوت مسموع، يصدر الجميع بياناتهم ورؤاهم في الهواء الطلق منتقدين بوضوح الممارسات التي يرون انها خاطئة، فلنتعود على هذا الجو فهو الجو الحقيقي للديمقراطية، مهم أن نتعود على احتمال آخرين ذوو أفكار مختلفة بصورة حادة عن افكارنا، فهذا هو واقع الديمقراطية وجوها العام، فلنسعى معا لتعضيده بالشفافية وحكم القانون ولنواصل الشجاعة والأمل في بناء واقع ديمقراطي يحتكم فيه الجميع إلى الأسس الديمقراطية السليمة
يوسف السندي – صحيفة السوداني