وداعا ايها الكاهن

فى ذات سفرية وفى الصحراء الواقعة بين وادى حلفا و أتيرى اوقف دهب تينا عربة البوستة للراحة ثم اشعل حجر الجوزة فتحلقنا حوله وكان معنا فى الرحلة قريبه استاذنا كامل خيرى الذى كنت اراه فى طفولتى كثيرا عندما يأتى لزيارة جدتى ابان عمله مدرسا فى دلقو الابتدائية.

قال لنا دهب فى ذلك اليوم أنه كان يعتقد خطآ ان الكرم الذى ظل ينفحه به صالح احمد موسى الشهير بصالح شكيه كان تعاملا خاصا به دون خلق الله لعلمه بان دهب ينتمى لأرومة جدتنا زينب شامى المنتشرة نواحى عمارة وعطب وجنيس وذو صلة بذويها فى اقترى . ثم اكتشف دهب فيما بعد أن الموضوع ليس فيه تمييز له وان لوارى السابلة جميعها تجد ذات المعاملة ، ثم حكى كيف كان ذلك الرجل الصالح الساكن تحت سفح جبل أقترى يستغل تضاريس المكان – كان ابو صلاح يحلف بالطلاق على سائقى اللوارى لكى يتوقفوا عنده لكى يكرمهم وكان الجبل المقدس يردد صدى حليفته ويملأ به الجو وكانه زخات رصاص تشريفى – حيث تهدىء العربات السير امام متجره و مسكنه اجباريا لعبور نتوء صخرى قديم امامهما. قال دهب انه سمع مرة صيحات صالح ولوح له محييا واعتذر له ووعده بالتوقف عنده مستقبلا ،

لكن ابو صلاح لم يوفر الوقت ، اسرع كالصاروخ وادخل يده فى كابينة القيادة وامسك بمقود السيارة عندما وجد العربة تتهادى فوق النتوء قائلا لدهب : حرم تلاتة خرفان جاهزين .!!

وكم وكم وكم غير دهب تينا حكوا واعادوا قصة
ابو صلاح فخر ذلك المكان ، واليوم حلت مصيبة بالمكان ، بأمر من امون حجبت الشمس والشجر والغيم والمطر عنه وفى المقابل اكرم امون صالحا وهيأ له موتا مريحا فى أرض مولده ، ويا له من اكرام يتمناه الكثيرون لكن دونه خرت القتاد ، اليوم غادرت اقدام ابوصلاح المكان ، لكن قلبه سيظل منغرسا فى ذلك المكان للابد ..اليوم يتوارى الصوت الذى آنس الجبل العتيق لسنين لكن صدى الصوت لن يغيب للابد ، اليوم يرحل صاحب اللنش لكن النهر القديم سيظل حفيا به للابد مستعيدا مزاميره حيث ناجاه ذات يوم بحق امون اله الشمس والريح والخصوبة ان يحول مياهه لعصير تمر قبل ان يتراجع ويطلب منه عدم الاكتراث لدعائه لخوفه من قيام البعض ( من وسط اقترى ) بالاستئثار بالخيرات وحجب النيل ومنعه من التدفق شمالا .!!!!

ضغطت عليه مرة لكى يكشف خبايا سنوات العشق والهوى والصراع العاطفى فانشد من شعره محلقا : بحرت لحد اسوان وقبلت لحد امدرمان ومالقيت يا ( …. ) مثلك فى النسوان !!
اختار ابو صلاح الرحيل فى عام الرمادة وانا الذى كنت اعد الايام وانتظر نهاية الوباء للقائه فى البلد لاكمال ما بدأته من توثيق معه . لقد اصبح العالم مخيفا بفايروساته وصواريخه النووية وجشع راسماليته وما يخيف اكثر اختفاء امثال صالح ممن كانوا يجملون هذا العالم ويطوعون شروره .. !!
مات ابو صلاح فى بيته دون اى جوطة او شوشرة
او ابر او دربات ، محاطا بالجبل المقدس وانفاس الطيبين وجلجلة اصواتهم وهم على راس الدواب يثيرون النقع ، وراءهم غبار الحياة ..!!

قال ابوصلاح مرة ان القمح والعمل الصالح لا ينبتان الا فى ارض خصبة وكان احمد شفا حاضرا
فسأله بخبث من تقصد ؟ فقال : ان فلانا بن فلان مثل الارض البور لا يعرف شيئا اسمه المعروف !!
لقد بذر ابوصلاح بذور المحبة والوئام والصلات الطيبة فعزز شعورنا بالوطن الصغير وكان من حماة البلد و كان انشودة حياة . كان ابوصلاح نسمة نيلية وظل ممتد ينشر الدفء والحنية

فى كل مكان ، وكان من عادته
التنقل بين القرى على ظهر حماره مستكشفا يراكم خبراته يضاعف مخزونه من المعلومات ، وكان معتادا ايضا ان يستغل الدواب فى السفر الى دنقلا بعدما افتتح شقيقه الراحل محمد احمد موسى اول صيدلية هناك . وكان لا يلقى بالا لما يقوله بعض اهل دنقلا عنه من جهة استخدامه الدواب داخل المدينة !!

قال لى صالح انه تعرض لنيران صديقة من الراحلين عبد الدايم محمدين و محمد سعيد محمد على رحمهما الله بسبب عدم التزامه بتوفير ( السخلة ) باعتبار اللحم عنصرا اساسيا من مستلزمات الانس البرىء عندما يجىء الدور عليه، وغادر اقترى مغاضبا على ظهر حماره حيث لم يتوقف الا فى أرقو
وهناك وجد الناس يقبلون على سلعة جديدة بنهم فابتاع منها كميات و عاد لمسقط رأسه مبتهجا بالاكتشاف الجديد الذى جعل
من عزلوه يقفون على بابه متجرسين من اجل رؤية ذلك الشىء الجديد عليهم ..!!

كان ابو صلاح بمثابة دواء لاحزان البلد و مثل وابل من المطر فى ارض جرداء حقا وليس كلام انشاء . اغلظ على الدعوة ذات اجازة

لكى اذهب برفقته لرؤية الاراضى الشاسعة شرق مستشفى دلقو وجبل اقترى حيث ينوى اقامة مشروع زراعى هناك مستفيدا من تجربته الزراعية فى السليم !!!
كنت اعرف ان الطبيعة القاسية ستصعب
من امكانية تحويل احلامه الى واقع ، لكنها لن تقتل احلامه ولن تمنع انتقال الحلم لقلوب مؤمنة من الابناء والاحفاد .
حتى مغادرتى السودان لم يكن ابوصلاح مهتما بشان الموت ولو اننى التقيت به مؤخرا لربما تناقشنا للتعرف على فلسفة الموت عنده بخاصة بعدما تقدم به العمر ، فقد كان رحمه الله ذو عدسة متميزة ترى البعيد وعقل لا يهدأ .
الذين بكوا ابوصلاح اليوم والذين شيعوه لمثواه الاخير ربما دعوا له بالرحمة وعال الجنان ، لكن صالح الذى اعرفه سيبدو مبسوطا اكتر اذا حوله الرب لجبل صغير عند المنحنى فى ستور ، او لشجرة جميزة بالقرب من جابرين مسيد ، حيث ترك وراءه فى تلك المواقع كما نعلم ذكرى كالمسك والعنبر ، دفع عنها الشر وجلب لها الخير مثلما يفعل اى سادن محترم فى السلك الكهنوتي لامون … لم يخزن القمح للفئران ولم يوزع القحط للناس ولا انتظر منهم القرابين !!
عاش ابوصلاح بالطول والعرض حياة صاخبة رجلا مرموقا و محترما ومحبوبا من العامة والخاصة بيقين ثابت بالخلود بعد الموت.
و ستظل خالدا فينا يا ابوصلاح !!
وداعا ايها المعلم الكبير !!

محمد يوسف وردي – صحيفة التحرير

Exit mobile version