كلمة دستور تحمل دلالات ومعاني مختلفة، منها أن دستور بالدال المفتوحة تعني عند العامة تلك الظاهرة الشيطانية المعروفة شعبيا باسم (الظار) ولك أن تقول (الزار)، وعند ممارسة هذا الطقس في حفل صاخب وماجن تردد مايسترو الجلسة (شيخة) تدعي أنها موصولة بالابالسة والجن والعفاريت عبارة (دستور يا أسياد) أو (دستور يا أولاد ماما)، والأسياد أيها السادة هم اولئك القوم غير المرئيين من المردة والشياطين، ونحمد الله أن هذا الطقس الشعبي الابليسي الضار عند نسائنا قد انحسر بدرجة كبيرة..ودستور بضم الدال هي كلمة فارسية الأصل تشير الى القانون الاعلى والاسمى للدولة، إذ إنه يضم مجموعة القواعد التي تحدد شكل الدولة، ونظام الحكم فيها، وتضمن للمواطنين حقوقهم الأساسية وتحدد السلطات العامة وتبين إختصاص كلا منها وعلاقات بعضها ببعض، وأغلب دساتير الدول بهذا المعنى تجيزها سلطات تأسيسية أو جمعيات تأسيسية تمثل الشعب، وهناك أيضا (دساتير) تخص العاملين في مهنة النجارة ويقصدون بها تلك الالات الحديدية التي يستعينون بها على تثبيت الأبواب والشبابيك الجديدة في الجدران، وكذلك هناك استعمال عامي آخر محير لكلمة دستور، كأن يقول أحدهم مغاضبا من يتجرأ ويقتحم عليه خلوته أو مكان خاص به دون مقدمات (شنو داخل توووش كدا بدون احم ولا دستور)..وبعد ان عرضنا لمجموعة من (الدساتير) المختلفة، حق لنا أن نتساءل في أي خانة دستور من الدساتير المشار اليها يمكن ادراج دستورنا الحالي المسمى (الوثيقة الدستورية)، الظن عندي أن (وثيقتنا الدستورية) أقرب لأن تكون من عينة (دساتير الاسياد) أو (دساتير تثبيت الشبابيك والابواب)، أو دساتير (الاقتحام المفاجئ)، حيث لا حظ لها بتاتا أن تكون ضمن الدساتير المصنفة على أنها قانون أعلى وأسمى، فما شهدته هذه الوثيقة من هلهلة وفتح وغلق واضافات وحذف وتجاوز وتعدي، حتى صارت مثل صنم العجوة الذي كان يعبد على ايام الجاهلية، كلما جاع صاحبه قضم منه قضمة الى ان يأتي عليه تماما، ولذلك وبسبب هذه الخرمجة خرجت وثيقتنا خروج بلا عودة من زمرة الدساتير المحترمة للبلدان المحترمة..
وعدم احترام الدساتير خصيصة أو قل عقدة قديمة عندنا في السودان، اذ لم تتوفر البلاد حتى الان على دستور دائم لها رغم مرور 64 سنة على الاستقلال، كلما وضع دستور خرقوه اما بانقلاب أو رموه فى سلة المهملات واستبدلوه بآخر حتى بلغت دساتيرنا الملغاة ستة أو تزيد، واستمر عدم احترامنا للدساتير الى يوم الوثيقة هذا..صحيح أن الدستور ليس نصا مقدسا، ولكن الصحيح أيضا أنه ليس منديل ورق تنظف به أنفك أو تمسح به وجهك ثم تلقي به على الارض بعد الاستعمال، ونصوص الدستور لا توضع للعبث بها، فالدستور عقد اجتماعي ملزم لمدى طويل وفي حالتنا هذه تكون الوثيقة الدستورية ملزمة من لحظة توقيعها والى انتهاء الفترة الانتقالية، فهي جوهر نظام الحكم، وكل انتهاك للوثيقة هو انقلاب على نظام الحكم، وانقلاب على الشعب، ونزع لشرعية السلطة، وجعلها محض حالة تسلط، فتعديل الدستور حدث كبير وجلل في أي بلد محترم ويحترم مواطنيه، ولا بد أن تتوافر له ضرورات ومبررات كبيرة وملحة لاجراء أية تعديلات عليه وبتوافق واسع، والا فان أي تعديل يطرأ على الدستور يكون محل شبهات وشكوك، ولهذا نثمن عاليا الخطوة التي أقدمت عليها كونفدرالية منظمات المجتمع المدني، بايداعها منضدة المحكمة الدستورية طعنا ضد قرار مجلسي السيادة والوزراء القاضي بتعديل الوثيقة الدستورية، لتضمين المادة 80 المنشئة لمجلس شركاء الحكم المثير للشنشنات والشبهات، وهي خطوة ضرورية ولازمة لوضع حد لهذا العبث ولو من باب الطرق على الأمر ولفت الانتباه اليه..
***********
حيدر المكاشفي – صحيفة الجريدة