بكري الجاك يكتب الراهن السوداني: أزمة التحليل أم تحليل الأزمة

الراهن السوداني: أزمة التحليل أم تحليل الأزمة
✍🏾 د .بكري الجاك
هنالك مبدأ شائع في الدراسات التطبيقية و الاجتماعية يعرف ب analysis paralysis وهو ما يمكن أن يترجم بشلل التحليل ويمكن تعريفه بأنه مغالطة النسق التي تنعكس في الوضعية التي ينغمس فيها الباحث أو المحلل في شروط و مقومات الموضوع قيد التحليل إلى الدرجة التي يفشل فيها الباحث من اتخاذ قرارات مصيرية مما يؤدي إلى فشل في إحداث أي تغيير أو إنجاز أي فعل إيجابي. و عادة ما يحدث شلل التحليل كنتيجة لحالة توهان الباحث أو المحلل في المعلومات والحقائق و الأنساق إلى درجة تجعله غير قادر على الفعل.
هذه المقدمة في ظني المتواضع تعبر عن حالنا السابق والراهن فما يكتب و يقال ويجترح في تشخيص المشكل السوداني منذ نشأة الدول سواء باستخدام مدخل تاريخي اجتماعي لفهم الدولة الكولونيالية الموروثة أو في محاولة فهم دولة ما بعد الاستعمار وتطورها الرأسمالي من منظور نقدي ماركسي كانعكاس للصراع الطبقي الذي يعبر عن مصالح طبقية موروثة من دولة ما قبل الاستعمار، أضف إلى ذلك تحليل نمط الإنتاج الذي لازم طبيعة هذه الدولة بخصائصه الريعية أو بعلاقات إنتاجه التقليدية في الأرياف و ما قبل الرأسمالية في الحواضر، كل أشكال هذا التحليل بغض النظر عن مدى صحتها ففي الأساس لايوجد شيء صحيح على الإطلاق و صحة أي نظرية أو منهج تحليل تستند إلى مدى قدرة النظرية أو المنهج في تفسير الواقع و مدى قدرة أي منهما على البقاء. كل أشكال هذا التحليل تعبر عن شلل التحليل لأن جل ما يكتب في كثير من الأحيان يبدو وكأنه إعجاب بالمشكلة أو ما يعرف في مجال السياسة العامة ب Admiring the problem فعلم صناعة السياسة العام كان منذ قيامه على علاقة وطيدة بالبراكيسز praxis أي الفعل واتباع التجريب والتطبيق. وبمرور سريع على صفحات الصحف المطبوعة والإلكترونية والأنشطة الإسفيرية وغيرها يستطيع الفرد أن يرى مدي الجهد المسكوب في تعريف مشاكل البلاد من اقتصاد وسياسة واجتماع وتشخيصها بغض النظر عن جودة وأصالة هذه المجهودات إلا أن جلها يقف ما بين شلل التحليل و الإعجاب بمعضلات هذه البلاد.

لا أدري أصول هذه الظاهرة و لا أدعي معرفتها لكن في ظني أن لها جذور في مناهج تعليمنا و ثقافاتنا، فالانتقال من التفكير النظري المترع بخيال الشاعر و الروائي الذي يحتفي بجزيل العبارة إلى فضاء معرفي قابل للدراسة والفحص بأدوات معرفية ومنهجية تطبيقية لهو أمر عسير على الشاعر و الروائي الكائن داخل كل سوداني، السبب الآخر أظن أن له علاقة وطيدة بالثقافة واللغة العربية التي بلاغتها قائمة على السجع والإطناب والجناس والتكرار لا على مدى صدقية الكلمات في التعبير عن الظاهرة قيد الدراسة من فحصها وتشريحها وقياسها من حيث المحتوى. في تقديري أن معضلة شلل التحليل تظل عائقا صعبا لانتقال صناع الرأي والمفكرين من خانة الوصف و الإعجاب بالمشاكل دون الاجتهاد و ربما حتى دون الوعي بضرورة تقديم حلول عملية قابلة للتطبيق و ليس محض أمنيات فالحلول تتخلق من فهم مقاربة الواقع الأمنيات من بنات الخيال الملازم لشلل التحليل.

و لنعطي مثالا واقعيا لحالة الإعجاب بالمشاكل وشلل التحليل دعونا ندلف إلى الحديث عن ما آلت اليه ما يمكن تسميته مجازا بقوى الثورة، بشكل عام في يونيو من العام الماضي كان هنالك مجموعة من الناس، بغض النظر عن مواقعهم السياسية، كانوا ضد أي تسوية سياسية مع اللجنة الأمنية موقنين بأن مواصلة الضغط عبر العصيان المدني والاعتصام والفعل الجماهيري سيؤدي بطريقة ما إلى تراجع اللجنة الأمنية وهزيمتها وتسليمها جهاز الدولة مما يسمح بقيام دولة مدنية كاملة الدسم، وفي الطرف الآخر كانت هنالك مجموعة ترى أنه عمليا لا خيار سوى الوصول إلى تسوية سياسية مع اللجنة الأمنية التي أبدت رغبتها في التخلي عن نظام البشير و أعلنت عن استعدادها للدخول في شراكة تقود لفتح طريق للحريات والانتقال الديمقراطي و جل هذه المجموعة من واقع متابعتي لم تفكر في التسوية لمحض سذاجتها السياسية وحدها بل لأنها كانت ترى في التسوية فرصة لنقل الصراع إلى مربع سياسي جديد يمكن أن يفتح آفاقا جديدة من ضغوط دولية وتحالفات داخلية يمكن أن ترجح كفة التيار الديمقراطي بشقيه المدني والعسكري. النتيجة أنه بعد مدة قلية من الفرح والتسامح سرعان ما قام بعض من جماعة المطالبين بالمدنية الكاملة بوصف مجموعة التسوية بالهبوط الناعم وهو وصف اتخذ بعدا تخوينيا ووصفا سالبا ويوصم الموصوف به بالانتهازية واللامبدئية و إن كان للمصطلح معنى أعمق و أبعد بكثير في أدبيات فض النزاعات و ربما نعود إليه يوما ما. منذ يونيو في عام 2019 ظل الواقع السياسي يتأرجح في تفسيره وفعله ما بين مواقف وأفعال المجموعتين فجزء من مجموعة التسوية تأرجحت ما بين الحردان سواء لتذرعها ببطء الإصلاحات في قيادة قوى الحرية والتغيير أو بضعف أداء الحكومة في ملفات الإصلاحات الاقتصادية والأجهزة العدلية أو عدم التزام الحكومة برؤى التغيير، لاحقا انتقل بعض الحرادنين إلى موقف لاهو معارض و لا هو داعم للحكومة بينما عاد بعض الحردانين للتعاون مع الحكومة بشكل انتقائي. انضم إلى معسكر التسوية بعض من حملة السلاح عبر اتفاق سلام جوبا و تبقى أن ينضم للتسوية الحركة الشعبية بقيادة الحلو وحركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد و مهما تكون طبيعة الاتفاق الذي سيتوصلا إليه بغض النظر عن حيثياته فسيكون امتدادا وتوسيعا لمعسكر التسوية.

خيارات المعسكر الراغب في مدنية كاملة الدسم هو استخدام سلمية الثورة ووسائل العمل الجماهيري من اعتصام و عصيان مدني و تظاهر و ربما ابتداع عمل سياسي من نوع فريد لإسقاط حكومة التسوية أو إجبارها على تغيير مسارها إلى مسار غير معرف فهذه القوى ليس لها رؤى واضحة و موحدة، هذا التيار يقف عند معضلة شلل التحليل فلا أدري ما هي الآليات التي ستجعل الشق المسلح في هذه الحكومة يتخلى عن كل مكتسباته و هنا أعني الدول الموازية التي يسيطر عليها، ظللت منذ وقت طويل أقول إنه لا توجد دولة عميقة في السودان و ربما إن وجدت كان يمكن أن تنجينا الكثير، هذه الدول الموازية هي التي بدأت في إسقاط البشير حتى قبل خروج الناس للشارع في سبتمبر 2013 وهذا ليس بأي حال تقليل من مدى فاعلية العمل الجماهيري الذي انتظم الشوارع في ديسمبر 2018 بل هو للتأكيد أن البشير كان قد فقد السيطرة على هذه الشركات و المجموعات الأخطبوطية التي كانت تدير دول موازية داخل الدولة وتساهم في تسيير هيكل الدولة الرسمي الذي ورثته حكومة الثورة المدنية كأنبوب فارغ. خلاصة الفعل الثوري بأشكاله التقليدية سوف لن تؤثر على الدول الموازية وشركاتها الأمنية التي تسيطر على 82 من موارد البلاد على حسب قول رئيس الوزراء الدكتور حمدوك فهذه الدول (وأنت تقرأ في هذا المقال) تشحن المواشي من الخوي بعربات القوات المسلحة و تعبر بها إلى أقصى الشمال لتذبح وتصدر لحومها عبر مصر وتودع عائداتها في حسابات بنوك في دبي ويأتي منها ما يوفر مرتبات الشغيلة وحوافز القيادات الشحمانة لهذه الشركات، وفي الضفة الأخرى تقوم قوات الدعم السريع بدور دولة موازية أخرى في سيطرتها على الذهب و غيره. حيال هذه الوضعية آليات المقاومة السلمية مهما تصاعدت سوف لن تؤثر على منظومة اقتصاد متكاملة تعمل خارج جهاز الدولة وتحمل السلاح ولا تتورع في استخدامه للحفاظ على مصالحها. هذا لا يعني الوقوف مكتوفي الأيدي حيال هذا الأمر بل للخروج من شلل التحليل والإعجاب بالمشكلة من شاكلة الثورة سرقت وأن تحالفا من الانتهازيين المحليين والوكلاء الإقليميين يديرون البلاد وأهلها يكتون بنيران الغلاء ويموتون بالمرض والمسغبة، الخروج من حالة شلل التحليل يعني التفكير بشكل خلاق لتطوير أدوات لا تقف عند الهتاف فكل أشكال المقاومة السلمية ربما تؤذي الغالبية المطحونة بدلا من الضغط على منظومة لا تعتمد على جهاز الدولة في الحفاظ على مصالحها، ربما التفكير الأوجب هو تحليل مصالح المجموعات المختلفة التي تشكل هذه الدول الموازية وفهم تركيبتها السيوسيولجية بدلا من التخوين والهتاف والزعيق.

أما قوى معسكر التسوية فلابد لها أن تواجه نفسها في مرآة المستقبل، فهذا التيار بكافة تشكيلاته من قوى الحرية والتغيير بشكلها الجديد والجبهة الثورية وبقية أطراف سلام جوبا حتى التي لم تشارك في المساومة بعد لكنها تفاوض أظن أنها تؤمن بالديمقراطية كمدخل لمعالجة اختلالات الدولة السودانية الهيكلية من إشكال الهوية الوطنية وعدم توازن العلاقات الخارجية والتنمية غير المتوزانة والتهميش والعدالة الاجتماعية، على قوي التسوية أن تطرح على نفسها العديد من الأسئلة وأن تبدأ بمسائلة الفرضية التي قامت عليها هذه التسوية التي على اختلالها كان يمكن أن تأتي بمساومة دستورية تشمل كل أطراف العملية السياسية في السودان بدلا من التسوية بالقطاعي، الفرضية تقول إن القبول بمشاركة اللجنة الأمنية أمر اقتضته الضرورة وحالة توازن الضعف التي شكلت الفترة من التاسع من أبريل إلى 30 يونيو 2019 وأنه ليس هنالك أي سبب للإيمان بأن من عمل مع البشير حتى آخر يوم في أيام حكمه يمكن أن يؤمن بإصلاح الدولة السودانية وتقويتها لامتلاك زمام أمرها ووضعها في مسار الانتقال الديمقراطي وأن القبول بالتسوية مرده السعي إلى خلق شروط موضوعية جديدة من تحالفات داخلية وإقليمية ودولية تعضد من موقف التيار الديمقراطي داخل معسكر التسوية.

هل هنالك ما يجعل هذا التيار يرى أي سبب للإيمان بأن هذه الشراكة بشكلها الحالي يمكن أن تقود إلى انتقال ديمقراطي حقيقي؟ إذا كانت الإجابة لا فلابد من التقدم خطوة من شلل التحليل والتفكير في خطوات عملية جادة مع الأخذ في الاعتبار أن ماحدث شبيه بالتغيير الكيميائي الذي لايمكن تغيير تفاعلاته بمجرد تغيير المواقف، هذا يتطلب الإجابة عليىسؤال آخر ماهي فرص تعظيم الانتقال الديمقراطي وتعظيم شروط نجاحه في ظل وضعية هذه الشراكة المزرية التي لم تخرج من خانة الشكوك في النوايا والتمسك بمكتسبات ما قبل الدخول فيها على الأقل من طرف اللجنة الأمنية؟ اللجنة الأمنية أيضا مطالبة بالإجابة على سؤال ماذا يريد أعضاؤها ومن تمثلهم من هذه الشراكة وماذا يريدون لوضعية المؤسسات الأمنية في الدولة المنشودة؟ المؤكد أن اللجنة الأمنية لن تستطيع حكم هذه البلاد لا بقوة السلاح و هي لا تملك أي قدرة لخلق قاعدة اجتماعية بديلة لإعطائها شرعية اجتماعية فالقاعدة الاجتماعية التي شكلت مصدر عمق لكل الحكومات في السودان بكافة أشكالها قد استنفدت كل قدرتها و تكتيكاتها، أما إذا كانت اللجنة الأمنية تحلم بتشكيل نظام حكم قائم على الشراكة الحالية دون التفكير فيما هو أبعد من الآن فهذا خطأ استراتيجي من طرفها فمن الصعب التعويل على أن تصبح قوى معسكر التسوية قاعدة اجتماعية أو مؤتمر وطني للجنة الأمنية لأن هذه القوى ستكون بلاقواعد في أقل من عام إذا ما سعت إلى إقامة مشروع شمولي وإذا كان نظام البشير قد استطاع تمديد أمد بقائه بتوزيع الرشاوى الاجتماعية كبديل للتخطيط السياساتي السليم فحالة الانهيار الاقتصادي التي لا محالة ستتفاقم لا تضع هذه الشراكة في أي وضعية لتقديم رشاوى اجتماعية لشراء أي تأييد سياسي.

في تقديري أن القاسم المشترك الأعظم بين القوى المدنية التي وقفت ضد التسوية والتفاوض والتي انضمت إليها بعد أن دعمت التسوية مؤقتا و لفظتها لكافة الأسباب والتي تفاوض على التسوية الآن والقوى المدنية في معسكر التسوية وبعض العسكريين هو أنهم جميعا دعامة التيار الديمقراطي الذي بإمكانه أن يجعل من الحرية والعدالة والمساواة واقعا بدلا من شعار. لا أظن أن الهتاف والزعيق والتخوين وتفتيش النوايا والتشكيك سيفيد لأن ذلك يعبر عن حالة من الكسل الذهني وفقر الخيال التي تعكس بالضبط ما وصفناه بشلل التحليل والإعجاب بالمشكلات. بقراءة بسيطة لتاريخ الانتقال الديمقراطي في أي مكان في هذه البسيطة الحقيقة أن الانتقال الديمقراطي عملية معقدة وطويلة وشاقة و ما يحدث في الساحة السودانية ليس نشازا بل إن كان لنا أن نتعلم من عبر من سبقونا في هذا الطريق فلنعي أن الأمور في مثل هذه المحطات لا يمكن اختزالها في ثنائيات أبيض وأسود وثوري وخائن ووطني وعميل فليس هنالك سبب يجعل ممن استشهد أي فضيلة على من كان يقف بجواره فكل الشعب السوداني كان يمكن أن يكون شهداء، فلنكف من استخدام الشهداء كدرع أخلاقي للتعبير عن سمو المواقف وطهر السريرة ولنعمل على إقامة ما ماتوا من أجله، وما لم نجتمع في التوافق على مكتسبات الثورة من حرية تعبير وتنظيم ونوظفها للإصلاح فكل الشعب السوداني وأنا وأنت سنظل مشروع شهداء، أرجو أن نكون معاولا للبناء.

بكرى الجاك – صحيفة السوداني

Exit mobile version