] متى سندرك أن مخاوفنا الزائدة من (تمدد) الأغنية العربية وسط الشباب ليس لها ما يبررها ..؟؟ متى سنعلم انه ينبغي علينا أن نخاف حقيقة من (إنكماش) الأغنية السودانية؛ وإنزوائها؛ وعدم قدرتها على الخروج من نفق المحلية والتحليق في فضاءات الإقليمية..؟؟ وإن كان (كساح) أغنيتنا السودانية؛ وقوقعتها محلياً أمراً مؤلماً، فإن الأكثر إيلاماً انها أصبحت تفقد أراضيها بالداخل شيئاً فشيئا، حيث لم تعد تتمتع بجاذبيتها القديمة، وحضورها الطاغي، وأهلها، وصُناعها مشغولون بالوقوف على رصيف الفرجة في زمن (سيطرة القونات)، مع أن الأجدر بهم أن يعملوا جاهدين على نفخ الروح في جسد أعمالهم الغنائية الميتة، عسى ولعل أن تفلح تلك الجهود ويحفظ الشباب أغنياتنا ويسمع الأشقاء العرب صوتنا، و(قد أفلحت إذ ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي..!!).
] كثيرون يتحدثون عن خطورة سيطرة ظاهرة (الزفة العربية)علي الأفراح السودانية، ويسعى البعض إلى تضخيم ذلك الأمر بصورة مثيرة للدهشة، مع أن الأهم هو تضافر الجهود من أجل تنمية الذائقة الفنية لدى الشباب حتى يحسنوا إختيار الأعمال الفنية بغض النظر عن – هويتها – لأنه ليس للفن وطن، كما أن الإبداع لا يعرف جغرافية الأماكن، فلماذا هذا القلق والتوجس الزائد من إختيار زوجين لأغنية عربية أحباها ليدخلان على أنغامها لمكان فرحهما، ويا ترى أين الإستلاب الثقافي هنا..؟ ومتى سنتخلص من هذه العُقد الزائفة، ولماذا عندما نتحدث عن هذا الموضوع نغفل جزئية مهمة جداً متمثلة في إتجاه كثير من الأسر المصرية الكبيرة والعريقة ونجوم الفن المصري لإقامة أفراحهم بطقوس سودانية كاملة التفاصيل و(الجرتقة)، ولا ينكر أحد الدور الكبير الذي لعبته الفنانة الراحلة ستونة مجروس منذ ظهورها مع مخرجنا السوداني السينمائي المميز سعيد حامد في فيلم (صعيدي في الجامعة الأمريكية) في نشر التراث والعادات السودانية حيث زفت الممثل الكوميدي محمد هنيدي بالطريقة السودانية، وشاءت الأقدار أن يحقق الفيلم نجاحاً جماهيرياً كاسحاً، فراجت الطقوس السودانية وأعجب بها كثير من الأشقاء المصريين، وباتوا يتعاقدون مع ستونة لإحياء أفراحهم بهذه الصورة التي شاهدوها بالفيلم، بل أن هنيدي نفسه عند زفافه طلب من ستونة أن يكون فرحه سوداني الطقوس والأبعاد والتفاصيل..!!
] لم يقتصر أمر (جرتقة) نجوم الفن المصري بالطريقة السودانية المعروفة على هنيدي، فالفنان ايهاب توفيق فعل ذات الشيء وكان في قمة فرحه، وهناك عدد كبير من أبناء الوزراء والمسئولين ورجال الأعمال والأثرياء بمصر تمت (جرتقتهم) على يد الراحلة ستونة حتى بات إقامة الفرح بالقاهرة – على الطريقة السودانية – في أحدى الفترات (موضة) يسعى لها الكثيرون بيد أن قلة من يظفرون بمسعاهم..!!
] رغم إنتشار ظاهرة (الجرتق السوداني) بمصر إلا أننا لم نسمع الأشقاء بـ(المحروسة) يذرفون الدموع على ضياع الهوية المصرية وإندثار حضارة سبعة آلاف عام، مع أن الطريقة التي يتزوج بها نجوم الغناء والسينما كـ(هنيدي وإيهاب توفيق) تدفع آلاف الشباب لتقليدهم، والسير على طريقهم لكن الثقة بالنفس والعقلانية والموضوعية تجعل إخوتنا المصريين يشعرون بأن هذا الأمر يمثل تنويعاً مطلوباً، ونوعاً من التغيير يسعى له البعض من باب التميز والتفرد عن الآخرين، وأنه لا ينقص من قدر وقيمة الثقافة والتراث المصري في شيء البتة.
] لفتة بارعة تلك التي قام بها الراحل المقيم الصادق المهدي إمام الانصار ورئيس حزب الامة القومي وهو يقدم قبل بضع سنوات الدعوة لموظفين بالسفارة البريطانية بالخرطوم لحفل (جرتق) سوداني كامل الدسم والتفاصيل عاكساً الثقافة والتقاليد السودانية، ليسحر الجرتق السوداني يومها العروسين البريطانيين (توم وكيت)، وقالا أن هذا الحفل المختلف أجمل ما حدث لهما في حياتهما ولن ينسيا هذه الطقوس أبداً، وما لم يقله العروسان أنهما بالتوثيق المرئي للجرتق السوداني ربما يقودان غيرهما من البريطانيين للمشي علي خطاهما، فالاعتداد بثقافتك وتقديمها للآخرين علي طبق من شرح وتفصيل ومحبة هو ما يعزز قيمها ويوسع رقعة انتشارها ليزداد أثرها، ويكبر تأثيرها.
] تلك كانت لمحة من حكمة الإمام الصادق المهدي ثقافياً، ففي عصر العولمة ينبغي أن تكون (منتجاً) لا (مستهلكاً) ، فالرجاء تجويد الإنتاج وتقديم أنفسكم للآخرين بشكل مشرف و(بلاش عُقد وتضخيم وإزعاج)..!
نفس أخير
] ولنردد خلف الراحل حميد:
منو العزَّ الحبيب ما لاك
وقدَّس لي عيونو السود
أكان سوِّيت غناك في عود
كان خدّر ملا الواطة
وكان فوّح عبير وورود
وما كان الزمن طاطا
لا وقع انحزم واقود
هيثم كابو – صحيفة الانتباهة