ثمّة حزن يصبح معه البكاء مبتذلاً، حتّى لكأنّه إهانة لمن نبكيه.
فلمَ البكاء ؟ مادام الذين يذهبون يأخذون دائماً مساحة منّا، دون أن يدركوا، هناك حيث هم، أنّنا، موت بعد آخر، نصبح أولى منهم بالرثاء، وأنّ رحيلهم كسر ساعتنا الجداريّة، وأعاد عقارب ساعة الوطن.. عصوراً إلى الوراء؟
” فوضى الحواس ”
#أحلام_مستغانمي
-1-
ربما استشعر الموت انه لم يعد مخيفا وقاسيا لدرجة الافجاع ،كونه أصبح حدثا يوميا اعتياديا يقطف ماشاء من ارواح الاعزاء فنواجهه بالصبر بعد ان (كشفنا سره واستسغنا مره
ﺻﺪﺋﺖ ﺁﻻﺗﻪ ﻓﻴﻨﺎ ﻭﻻ ﺯﻟﻨﺎ ﻧﻌﺎﻓﺮ
ﻣﺎ ﺟﺰﻋﻨﺎ ﺍﻥ ﺗﺸﻬﺎﻧﺎ ﻭﻟﻢ ﻳﺮﺽ ﺍﻟﺮﺣﻴﻞ
ﻓﻠﻪ ﻓﻴﻨﺎ ﺍﻏﺘﺒﺎﻕ ﻭﺍﺻﻄﺒﺎﺡ ﻭﻣﻘﻴﻞ
ﺁﺧﺮ ﺍﻟﻌﻤﺮ ﻗﺼﻴﺮﺍً ﺍﻡ ﻃﻮﻳﻞ
ﻛﻔﻦ ﻣﻦ ﻃﺮﻑ ﺍﻟﺴﻮﻕ ﻭﺷﺒﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻘﺎﺑﺮ)..
قرر الموت استعادة عرش فجائعه المسلوب، بعد ان باخت فكرته من كثرة التكرار واصبح نكتة في شفاه الاقدار لا تضحك او تبكي احد، استجمع كل قدراته وطاقته علي الافجاع فنشب أظفاره في (عزيز دنيانا ) الامام الصادق المهدي زعيم حزب الامة وكيان الانصار.
2
والإمام الذي وجد مثلما يتمنى اهلنا في تقربهم الدائم لحسن الخاتمة ( ميتة الخميس ودفن الجمعة)، اعاد الي الموت هيبته وللدموع صدقها، وللحزن وقاره وللبكاء وجعته بعد ان جفت ينابيعه في العيون ولم يعد في القلب موضعا لجراحات جديدة.
موت المهدي اعاد تعريف المصيبة، وجدد في خلايا الاحزان معاني الفقد التي اعتدنا علي طعمها مع تعدد الفواجع فلم تعد تؤلم احدا ، رحيل الامام أعاد للحلوق العبرة ، وللصدور الغصة ، وجعل الموت في حالة عنفوان جديدة ومخيفة لاتشبه استفزازنا الدائم للمنايا ونحن ندعوها ( ان حومي فوق الحمى واستعرضينا واصطفى كل سمح النفس بسام العشيات الوفي الحليم العف كالانسام روحا وسجايا.. أريحي الكف افترارا وعطايا).
-3-
وحده الصادق المهدي يزلزل فينا ثباتا زادته مواكب الراحلين إلى دار الخلود صلابة، ويختبر صبرنا علي الوجع ، ويبعث في حياتنا نصاعة المعاني المعبرة عن دقة وصف الفقد الفادح والمصاب الجلل.
كانت ام درمان مدينة يتيمة وهي تفقد الحبيب في ليل الماساة الاليم، القناديل كانها مدامع تسيل علي طرقات الاسفلت الباهت ، وجدت النيل واجما وهزيلا، المآذن مكسورة وقبة المهدي تبرم مع أحشاء المدينة الموجوعة موعدا للبكاء والنحيب والعويل، ( هوت عمم لهول نعي صخر وافلت من تماضرها الخمار) ، اليتم يلف المكان ، الناس هناك يتهاوون في احضان بعضهم وان كانوا لا يتعارفون ، كل يعزي الاخر ويبكي علي طريقته ، دموع الرجال فاضت بالمكان، وارهقت قدرة الموجوعين علي الثبات.
لا اتخيل ام درمان بدون الصادق المهدي، لا أظنها تطيب دون وقع خطاه المطمئنة في شوارعها التي يكفنها الحزن ويفجعها البكاء _ مشاركا في الافراح والاتراح ، كان اول المعزين وفي مقدمة المهنئين ، يزور الجار، ويعود المريض ، يحب المساكين ، يتوسط افراح الناس ، يهبهم بركة الجرتق واشراق العديل والزين مثلما يستر جنائزهم ويصلي علي موتاهم ، تتراءى ام درمان في يوم التشييع وكأنها شبح لمدينة يتيمة دامعة أرهقها الشوق في انتظار حبيب لن يعود.
-4-
من يمسح عن وجه بلادنا الاسي وصوت الامام يغيب عن سوحها ومنابرها وفضائها وقد خبرته زعيما جحجاحا وخطيبا مفوها ، تتوافد اللغة طازجة ومعقمة من لسانه الذرب العفيف حتى في مواجهة شانئيه ،
فقد عاش ياخذ العفو ويامر بالعرف ويعرض عن الجاهلين ، نضر الله ايام الامام الموارة بالنبل والعفاف والسطوع المتجدد في عوالم الفكر وتجليات الحكمة والوعي السياسة، والزاهية بالخيل والخير والعزة والحضور الباهر في تفاصيل المشهد الوطني طيلة الستين عاما الماضية بهمة عالية وارادة علي بلوغ المعالي ونهايات المكارم لا يطالها التعب .
-5-
كان ( مسمار النص) والركن الركين، والحكيم العاقل، والزعيم الكبير اذا حكم والمتسامح العفيف اذا عارض,
رحل الصادق المهدي وترك البلد بلا كبير غارقة في اليتم ، تركنا الامام وهو المدخور بحكمته ووعيه ودربته ليعبر بنا مطبات الفترة الانتقالية وتعقيدات تخلق السودان في بعثه الجديد.
مثل الرجل جهاز مناعة لواقعنا السياسي يصد عنه بكتيريا التطرف وجراثيم التشفي والغلو ، وظل فارسا يجرد جيوش الافكار والمواقف ضد أية محاولة لاختطاف بلادنا بواسطة الموتورين والمتفلتين من دعاة الفوضي والتشرذم والاقصاء اذ كان يذكرهم دوما بان (من فش غبينتو خرب مدينتو).
مثل المهدي مصدا صلدا لرياح أرادت استلاب ثقافة شعبنا وحشره في معارك التحلل القيمي فعاش إلى جانب ميراثه الروحي _ كامام لكيان ديني _ زعيما سياسيا ومفكرا استثنائيا زواج بين الاصالة والمعاصرة بتوازن غريب.
-6-
(طالما الصادق في عوجة مافي)، عبارة كنت أتزود بها حين تجتاحني المخاوف علي مصير بلدي، كان هو الحكيم النبيل الذي لا يزايد علي وطنيته احد، مثل مؤسسة انسانية يتعلم منها الساسة جلاء الحكمة ومعنى التسامح والوسطية والاعتدال، عاش نبيلا متساميا، وكبيرا تتقزم في وعيه الأزمات وتنتهي في منطقه المشكلات.
مهذب ومتواضع وحيي جرئ في الحق ، صاحب توقيعات ساخنة علي الاحداث تجدد خلايا الساحة السياسية بالاختراقات الكبيرة والمفردات الرصينة ، كان دقيقا في توصيف الحالات يستدعي لها من سودانيته المبهرة ما الحق (بيضة امكيكي) و(نعامة المك ) و( ديك المسلمية) بالقاموس السياسي السوداني ..
_7-
عاش رجلا .ديمقراطيا سمحا متواضعا تتداخل في شخصيته صفات
المفكر والمجدد والمصلح السياسي والاجتماعي، لم يدع مجالا الي والف فيه الكتب واعمل الدراسات، تجاوزت اهتماماته المحلية بكثير فهو مفكر تحتفي به المنابر الاقليمية والدولية وتتشرف بعضويته المبادرات والمنصات الخارجية.
نعم سيدي الإمام ومثلما كان آخر ما كتبت أفضل الناس في هذا الوجود شخص يترحم مشيعوه قائلين لقد شيعنا حقانياً إلى الحق.. (إِنَّ إلى رَبِّكَ الرجعى).. نشهد انك كنت حقانياً وديمقراطياً وعفيفا تبيلا ووطنيا كريما… طبت صادقا ومهديا أيها الحبيب…
أيامك مضن متل البروق الرفن..
كتر النوح عليك ترع العيون ما جفن..
تاج نمر اللباقة رقد معاك واتكفن..
الجود والبشاشة اتقالدن واتوفن..
رحم الله الإمام الصادق المهدي..
محمد عبد القادر – صحيفة اليوم التالي