حسن فضل المولى يكتب: الصادق المهدي .. الحبيب

( الصادق ) ..
إسم أصبح راسخاً في وجدان كل سوداني ، رسوخ نهر النيل ..
و ممتداً ، إمتداد نهر النيل..
و مِعطاءً ، عطاء نهر النيل ..
وأنا عندما أقول ( الصادق المهدي ) ، هكذا ، مجرداً ، أحس بأني غير محتاج ، لأن أخلع عليه من الألقاب والصفات ،، فإسمه صفةً و وصفاً و موصوفاً ، يجسد مراقي السمو والرفعة ، وعلو القدر ،،
ومنه تستمد الصفات بريقها ، ومعانيها ..
ويكفي أنه ( الحبيب ) ..
وصفة ( الحبيب ) هذه لا تأتي من فراغ ، ولا تُخْلَع إلا على من استحقها وأدى حقها ..
و ( الصادق ) بها خليق ، ولها مُستَحِق
فهو محب للناس
ومحبوب من سوادهم
وأنا من أولئك المحبين ..
تجده ، في كل أحواله ، مُقَدِّراً و مُحْتَفِياً بمن حوله ..
يسعهم بلطفه وتواضعه وأدبه الجم ..
لا يُعنِّف
ولا يَحْتَقِر
ولا يصُعِّرُ خده
وإذا أتيته طالباً أو مطلوباً ،،
تجده متمهلاً خافض الجناح ..
لا يصدر عنه ماينبئ عن ضيق ، أو ملل
أو استعجال ..
وكأنه قد فرَّغ لك نفسه ، ولا شيئ يشغله سواك ..
يستمع إليك بإنصات واهتمام ، حتى تظن أنك أنت الأرفع وهو الأدنى ..
وكثيراً مايهدي إليك مايسرك ..
ويتبعك مودعاً بحرارة ..
و في مثله قال خالد بن صفوان لوالٍ دخل عليه : ( قدمتَ فأعطيت كلاً بقسطه من نظرك وصِلاتِك وعدلك
حتى كأنك من كل أحدٍ أو كأنك لست من أحدٍ ) ..
لذا فهو ( الحبيب )..
وإني لعلى هذا التعامل الراقي لمن الشاهدين ، فقد كان حَظِي أن أتعرض لهذه النفحات ، ( الصادقة ) ، باكراً عندما أتيح لي أن أقوم بتقديمه ، وهو يستجيب لدعوتنا ، في ( إتحاد طلاب جامعة أمدرمان الإسلامية ) ، لتقديم محاضرة ، عن الراهن السياسي آنذاك لطلاب الجامعة ..
وفي اليوم التالي ، فوجئت بإتصال من إحدى الأخوات ، تُنْهي إليَّ أن (الصادق المهدي ) يدعونني للقائه !!
قلت : يستحيل أن أكون أنا المدعو ،
ومن أنا ، حتي يطلب (الصادق المهدي) مقابلتي ؟ ولعل ناقِلَة الدعوة ، قد أخطأت العنوان ..ولعل ، ولعل ..
وفي الموعد المضروب ذهبت مُتَثاقِلاً ،
مخافةً ورهبةً ..
وتبددت مخاوفي ، وتبخرت الرهبة ، وهو يستقبلني بِلُطْفٍ وحميمية ، وبالغ في إكرامي ، ثم أثنى على تقديمي له ، ومنحني جُرعَاتٍ ، من النصح والتحفيز ، لا أزال أجد لها أثراً في عُروقي ..
وقبل أن أنصرف منحني هديةً ، عُدْتُ بها ، وكأنما حِيزَت لي حُمْر النَّعَم ..
وحمر النعم ، هي كرائم الإبل ،يُضرب بها المثل لكل غالٍ ونفيس ..
هذا هو ..
وهذا غَزْلُهُ ..
( والصادق ) منذ أن انخرط ، عاملاً ناصباً ، في سن مبكرة ، وجدناه على حالٍ ، ظل مُقِيماً عليه ، إلى أن إختاره الله إلى جواره ، راضياً مرضياً ،
إن شاء ..
هِمَتُه ترمي به وراء سِنِه ..
يحب معالي الأمور ، ويكره سَفْسَافَهَا ..
مواقفه تتسم بالتروي والعقلانية ..
لا يُجَاري سفيهاً ، و لا يلتفت إلى مسيئ
يَلِين في غير ضعف ، ويشتد في غير عنف ..
مُهادِن ، إلا فيما ينال من عقيدته ، وكيانه ، وقناعاته ، فيهب كالريح المرسلة ..
حقاني ..
ودائماً مايردد : ( إن الذي لا يقتلك يُقَوِيك ) ..
كَلِفٌ بالجمال وحُسْنُ المطالِع ..
أبوابه مشرعة ، غير محروسة ، و لا تصد أحداً ، بل تنادي عليك ..
وهيأته ظلت هي هي ..
ومواقفه هي مواقفه التي عُرفت عنه ..
( لا غيرتو ظروف ، و لا هزتو محنة )
ولما كان الله ، ( عز وجل ) قد خلق الجبال أوتاداً ، تثبيتاً للأرض من أن تميل بنا ، فقد ظل ( الصادق ) يؤدي هذه الوظيفة ، بإقتدار وجلد و حكمة ، في مسيرة السياسة السودانية ، وهو يُمسك بدفة مَركِبها ،، يميل بها نحو اليمين إذا عصفت بها رياح شمالية ، ويسوقها نحو اليسار إذا لفحتها رياح من تلقاء اليمين ..
لقد ظل يمثل ، عنصرالثبات والإستقرار ، في التعاطي ، مع مستجدات وتقلبات ، الوقائع والأحداث في السودان ..
سيرته كتاب عنوانه ،،
( التوسط والإعتدال ) ..
فإذا سُئِلت عن معنى التوسط والإعتدال
فقل : ( الصادق المهدي ) ..
وإذا طُلِب منك أن تصفه بإيجاز
فقل : هو ( التوسط والإعتدال ) ..
وفي ذلك إجابة و افية ، وشافية ..
لقد كان مجافياً للتشدد والغلو
في كل أمر وفعل وطرح
وكذلك منهجه في التدين ..
( ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة ، ولا الآخرة للدنيا ، ولكن خيركم من أخذ من هذه وهذه )
لا يُقْدِم على قول أو فعل ، إلا وقد بحث ، ومَحَّص ، واستقصى ..
ثم فكَّر و قدَّر ..
ثم أمضى ..
وهذا السلوك جعله في نظر البعض ..
مُمْسكاً بالعصى من نصفها
أقواله مُنْتَقَضة ،
ومواقفه مُتَأرْجِحة ..
ومن ابتغى عنده موقفا لايتبدل ، فهو كباسط كفيه إلى الماء ، ليبلغ فاه ، وماهو ببالغه ..
هكذا يراه البعض ..
وهذا مرده إلى أن مواقفه وأحكامه
لا تأتي كما يَرَوْن و يشتهون ،، إذ أنه ، وكما عُرف عنه ، لا يسعى إلى إرضاء أهواء النفوس ومسايرتها ، و لا يرتضي لنفسه مواقف تُعَمِّده ( ترزياً ) يُفَصِّل لكلٍ ( جُلْباباً ) على مقاسه ..
إنه لا ينساق مغمض العينين ..
و يبادر إلى بذل النصيحة ..
ويجس مواطن العيوب تلميحاً لا تصريحاً ..
ويُقَوِّم المعوج ، دون أن يجرح أو يُهِين ..
لا يجامل ولا يداهن ..
و ليس بالخِبِّ ولا الخِبُّ يخدعه
نعم ،كان أفضل من أن يَخْدَع ، وأعقل من أن يُخْدَع ..
لذا تجد أن أغلب المترددين عليه ، من
الطامعين والطامحين ، يصدرون عنه ، خاليي الوُفُض ، وفي أحسن الأحوال بنسبة رضى لا تتجاوز العشرين في المائة ..
ولهذه الأسباب وغيرها ، تجد أن الناس إزاءه مابين ..
مُحِب ومبغض
راض وساخط
مُقْبل عليه ومدبر عنه ..
و إن كان محبوه يملأون الآفاق ،
فإن شانِئيِّهِ ، خِفافٌ ، موتورون ، مغبونون ..
ومن رضي عنه اليوم ،يسخط غدا ..
ومن يُقْبِل عليه ، لا يلبث أن يُدْبِر ..
لكن الذي لا ينتطح عليه عنزان ،،
أنه هو ( الراكِز ) والثابت ..
والآخرون هم الذين يروحون ويجيئون
هم المتحولون
و المتأرجحون
والسادِرون ..
وثباته ينهض على محجة بيضاء ،، ليلها كنهارها ،، لا يزيغ عنها إلا منقوص الوطنية ، خامل الذكر ، مسلوب الإرادة ..
وهي أن السودان جماع معتقدات ، وإثنيات ، وإختلاف ألسنة وألوان ، وطرائق حياة ، وتنوع أمزجة ، وتفاوت بائن في الكسب المادي والمعرفي ..
فإن نحن أحسنا توظيف هذا التنوع والإختلاف ، كسبنا وطناً ناهضاً متماسكاً ، أما إذا تفرقت بنا السبل وتخطفتنا المآرب فعلى السودان السلام ..
وهاهو قد مضى إلى ربه ، قبل أن تقر عينه برؤية ماكان يحلم به ، وكرَّس له حياته ، وأنفق فيه عمره ..
وهو عمر مديد ، عَمَرَه بجلائل الأعمال وعظيم التضحيات ..
وإذا كان ( بن سيناء ) قد سأل ربه أن يهبه عمرا عريضاً ، أي حافلاً بالإنجازات ، لا طويلا يشكو الخمول ، فإن ( الصادق المهدي ) قد وهبه الله عمراً طويلاً عريضاً ،، أنجز فيه ما تعجز عنه جماعة من أولي الهمة والعزيمة ، حتى أن الكثيرين يستغربون متسائلين :
أين يجد الوقت ، والقوة ، والصبر ،
ليأتي بما لم تستطعه الأوائل ، و يظل يرقى علياء بعد علياء ..
وهو في ذلك يسلك طريقاً جَمَّ العِثَار متوالي الخِطَار، فما وهن ، وما استكان وظل يتنقل من ثغرة إلى ثغرة، ويصد عن قومه الجوارح ، و الجوائح ، ويحصنهم بالكوابح من المزالق ..
يُحَذِرُ
ويُبَشِرُ
ويَُسَّدد
ويُقَارِب
ويُبَصِّر بالمآلات والعواقب ، و كأنه يراها رأي العين ..
فقدكان يرى بصوابِ الرأي ماهو واقعٌ
كأن له في اليوم عيناً على الغد ..
كان أُمَّةً ..
إجتمعت له المناقب والمحاسن والسجايا ودانت له ..
وكأنه هو المعني بقول القائل :
وأنت إذا ما وَطِئتَ الترابَ
صار تُرَابُك للناس طِيِبا ً..
كان يسبق في كل ضرب ، وكأنه لا يحسن غيره ..
تجده فارساً لا يشق له غبار ..
بين المفكرين والعلماء ، موقعه في المقدمة ..
والساسة هو إمامهم ..
يتحدث اللغة العربية بلسان الخليل بن أحمد الفراهيدي ..
ويَبِز ( الفِرنجةَ ) وهو يُحَدِثُهم ، ويُحَدِّث عنهم ، ويخوض في علومهم ..
له في التفسير فهمه ، وطريقته ، وأسلوبه ..
يُعَّد من المجتهدين في استنتاج الأحكام الشرعية ..
مؤلفاته لو استعرضتها ينقطع نفسك قبل أن تحصيها عدَّا ..
يسوق الحكم والأمثال وكأنه أعرابيٌ قُحٌ نشأ في البادية ولم يغادرها ..
ذاكرته خِزانة ممتلئة بالأشعار ،فصيحها وعاميها ..
وبه ميل لشعراء الحقيبة ، خليل فرح ،سيد عبدالعزيز ، عمر البنا ، أبوصلاح ، ود الرضي ، عتيق ، عبدالرحمن الريح ، ومن نهج نهجهم ..
وتطربه أنا امدرمان وأخواتها ..
( أنا ام درمان
أنا ام درمان أنا السودان
أنا الدر البزين بلدي
وأنا البرعاك سلام وأمان
أنا البفداك ياولدي
أنا امدرمان لسان حالك
أريتك تدري بي حالي
أنا القدرت أحوالك
وحبك بدري أوحى لي
أقوم بي أعظم الأدوار
وأكون الساحة للثوار
وأبقى البقعة للأحرار
وأمثل عزة السودان ) ..
وهو بهذه الأحمال الثِقال ، والإنشغال ،، لا يتوانى في تخفيف المصاب بمؤازرة المكلوم ..
ويَخِفُّ إلى الأفراح ، فتتوهج بحضوره ، وتزدان ، وتغدو الفرحة فرحتين ، خاصة عندما تلامس يده الحانية جبين العريس ورأس العروس ، ليبدآن حياة زوجية سعيدة ، وهو يدعو بأن يبارك الله لهما ، ويبارك عليهما ..
ويُرقي للمولود
ويعود المريض
ويَُؤمِّن الخائف
ويزيل شك المُرْتاب
ويُصْلِح ذات البين ، بجمعه بين الشتيتين ، بعد أن ظنا أن لا تلاقيا ..
وفي الأعياد هو العيد ..
هذا هو ( الصادق المهدي ) ..
تجده حاضراً ، عند صغير الأمور ، وعظيمها ..
دقيقها ، وجليلها ..
باذلاً وسعه ومسدداً رميته ..
بقوة و حرص ، و صدق ، و حماس ..
لذا فإن وقتاً طويلاً سيمضي ، قبل أن نفيق على وقع هذا الغياب الصاعق ، للصادق الصديق عبدالرحمن المهدي ..
الحبيب
الإمام ..
(اللهم لا تحرمنا أجره
ولا تفتنا بعده
واغفر لنا وله
واجمعنا معه في جنات النعيم
يا أرحم الراحمين ) ..

حسن فضل المولى
أم درمان ٢٦ نوفمبر ٢٠٢٠

Exit mobile version